بعد سقوط العراق، نشرت مجلة “The Atlantic Monthly” تقريرًا حول مستقبل الشرق الأوسط تحت عنوان “بعد العراق”، مر به القلائل علي عجل، وحكموا عليه بأنه نسخة أو نقلٌ حرفيٌّ لحالةٍ نفسيةٍ لا يرقي إلي شهادةٍ أو وثيقة، كان من الصعب النظر إليه بعين الاعتبار من وجهة نظر عام 2008، في ذلك الوقت، لم يكن يستطيع أحدٌ أن يتصور انهيار حالة التعايش السلميِّ بين أنظمةٍ مصابةٍ كلها بعاهة الديكتاتورية وأساليب القبيلة، ولا أن يتصور شكل الذريعة التي تسمح للقوي الكبري بالتدخل السافر لرج وضعية استقرار أنظمةٍ تعمل في خدمتها علي حساب شعوبها مثل عبيد الأرض ومن ثم العصف بها، أما الآن وقد ظهرت داعش وتحول ما ظنه المحللون خيالاً إلي واقع، فكلنا مجبرون علي الخشوع عند إعادة قراءة ما كتبه “Jeffrey Goldberg” كأننا أمام نبوءة عظيمة، أو أمام .. أخطر تسريب أفلتته عن عمدٍ أجهزة مخابرات كبري!

صار بوسع “جولدبرج” الآن أن يقول:

– أنا كنت أرسم بالكتابة خارطة الشرق الأوسط الجديد لأني لست من هذا الصنف من المحللين الذي يبحث عن موضوع مثل المؤرخ، بل تنبأت أيضًا بحركة الخطوط واتجاهاتها، كنت أكتب ما هو أشد خطرًا من وثائق ويكيليكس، فهذه تسلط الضوء علي أشخاص محددين وأحداث محددة صنعت تاريخاً قد انتهي وبهتت آثاره، أما أنا فسرتُ علي درب “نوستراداموس” وفضحت غيبًا بانتظار مئات الملايين من سكان العالم كأنني كنت أراه:

دول ستختفي تمامًا، ودويلات ستولد قيصريِّاً من رحمها، وسيكون للمذهبية ديارٌ مستقلة، وسيكون للقوميات أيضًا أعلام خاصة وعملات وأوطان يأتي في صدارتها وطن للأكراد علي مساحاتٍ تنتزع من تركيا وسوريا بالإضافة إلي نواته المركزية في العراق، وستضرب النزاعات المسلحة في كل شبر من المحيط إلي الخليج، وستكون اليمن ومصر والشام ودول الخليج كلها عرضة للتآكل الجغرافي والضمور الإقتصادي والتقسيم إن لم يكن التشظي، وستزحف الفوضي علي المغرب العربي من أقصاه إلي أقصاه، وستضيع الحدود الفاصلة تمامًا، وستكون الفيدرالية أحياناً أقل الخيارات قسوة..

من الجدير بالذكر أن “جولدبرج” ذكر في تقريره أن الأكراد لا يحملون للأتراك مشاعر سلبية إلي حد كبير لكنهم يكرهون العرب ويعتقدون أنهم السبب في كل ما حدث لهم من أمور سيئة، لقد انتزع هذا الإعتراف من مرافقه الكردي، وهذا مبرر، فذاكرة حقبة “صدام حسين” عندهم لا تزال مشتعلة، برغم هذا، ومع الأخذ في الإعتبار تعامل “أردوغان” مع المسألة الكوردية بأسلوبٍ لا نلمس فيه إلا حساسية المتعصب لقوميته وخشونته وحدهما، بالإضافة إلي فتور علاقة بلاده بإسرائيل إلي حد لا يسعه حرج اللحظة التاريخية، وبالقدر نفسه، تحالفات “تركيا” المثيرة للشفقة، يمكنني أن أؤكد علي أنها أيضًا، كالمنطقة كلها، ليست علي ما يرام!

هذه هي الملامح الحادة لتنبؤات “جولدبرج”، يبقي أن أؤكد علي أن الانطباعات الأولي التي سيتركها التقرير في القارئ مثيرة لبهجة التشفي لما يبشر به من تحولات كبيرة قد تشق للمقهورين ممرًا للخروج إلي الهواء الطلق وتملأ حواسهم بلذة الانتقام، هذا من جهة، لكنه، مثيرٌ للمخاوف من جهة أخري، لا لشئ سوي أن هذه التنبؤات التي الآن تتحقق في تسلسل مثير، ربما تنصب في الغالب علي المظاهر الخارجية ولا تمس المصدر الحقيقي لرؤية أصحاب المصالح الرأسمالية المتخفية وراء الصيغ والحكومات الوضيعة، ففي غير صالح هؤلاء إبداع شرق أوسط جديد ما لم يكن أرضًا جديدة لمعركة قد تمتد لعقود قادمة، ذلك لأن التغيير الإيجابي لا يتحقق أبدًا من خلال تنمية القبح بل باجتثاث جذوره، وإذا كانت هكذا مكيدتهم فهم لا يخونون تاريخ أجدادهم الذين ارتكبوا قبل عقود مضت مؤامرة “سايكس بيكو”!

ما يعنيني أن الحرية في هذا الأفق لن تكون أبدًا سهلة المنال بالأدوات التقليدية، لأن الأنظمة الديكتاتورية التي سرقت، وما زالت تسرق أعمار عدة أجيال متعاقبة، وولدت كلها من رحم “سايكس بيكو” الأولي، ستكون مرشحة للإستنساخ علي نسق أكثر خسة، كما أن الذريعة الشهيرة: “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” ستستعيد عافيتها، ولقد لمس “جولدبرج” في تقريره هذا المعني بوضوح عندما ذكر أن أحدهم سأل “كونداليزا رايز” وزيرة الخارجية الأمريكية في ذلك الوقت:

– لماذا تخون أمريكا قيمها ودستورها وتقدم الدعم لأنظمة ديكتاتورية مثل نظام مبارك ونظام آل سعود وحتي قبل 50 سنة مضت؟

فأجابت بلا خجل، وبشجاعة سكير:

– نعم، نحن ندعم أنظمة نعلم جيدًا أنها ديكتاتورية، لكن النتيجة أن لدينا 50 سنة من الاستقرار والسلام!

هذه هي الصورة كاملة، وهذا هو الواقع المؤجل الذي من المستحيل كبح تقدمه، وبالتالي، تفويت الفرصة علي المستعمرين الجدد، إلا بانخراط الشعوب في مواجهة القبح، ومواجهة النفس .. أو .. بتبني الأنظمة قيم الديمقراطية، ومنح الشعوب حريتها كاملة، وللذين يظنونه بعيدًا، أقول:

– إن غدًا لناظره قريب!

محمد رفعت الدومي

شارك الخبر:

شارك برأيك

‫7 تعليقات

  1. مساك الله بالخير اخ محمد قرأت المنشور في الرأي اليوم. للاستاذ عبد الباري عطوان العيشه في ضَل حزب البعث كانت تتطلب جهد وخاصه الفكري أضافه الى الطبيعه العراقيه التي لايعجبها العجب تصور درسونا في البتدائي ان مع قيام دولة اسرائيل يجب تقسيم العراق الى ثلاث دول كبرنا وهذا الخوف ملازم لنا على العراق كنت قريب من مركز القرار زمن صدام ما أخفيك كان العراق يتوقع الحرب مع اسرائيل في اي لحضه وخاصه بعد نهاية حرب ايران. لكن لم يخطر ببال احد ان تجري الامور بهذي الصورة وخاصه تكالب العربان على تدمير العراق. حسبنا الله ونعمه الوكيل. حال العرب يشبه النعجة عندما يمسكها الذئب تركض أسرع منه للهلاك تحياتي للاخت اخر العنقود ردودك تترك في النفس اثر طيب وتضيف على الموضوع نور من وحي فكرك الثري

    1. عليك السلام يا صديقي، كل الود والتقدير ى حر، كل ما تفضلت بقوله مؤكد، فالعراق له رمزية خاصة عند اليهود من أيام بابل، الشيقل عملة اسرائيل كلمة بابلية أصلاً، أنحني والعطر

      تحياتي أنا أيضًا للرقيقة آخر العنقود

    2. هنا المجد أمَّ وصلَّى وصام
      وحجَّ وطاف بدار السلام
      فبغداد تكتب مجد العظام
      وما جفَّ فيها مداد القلم
      سلام لأرض تفيض عطاء
      وعطر ثراها دم الشهداء
      ======
      اَدم ……. أولاً نرُدُ التحية بأفضل منها و ثانياً نشكُرك على جميل الكلام سواء هُنَا أو في تعليقاتك السابقة و ثالثاً عتبُنا عليك شديد على اللهجة التشاؤمية التي لا تليق بأهل العراق (هُنَا و في الموضوع السابق ) فقد عرفناهُم أهل عزم و عزيمة ، لم أعرف بلدي يوماً حُرة و لكن كُلي أمل كما كان أمل جدتي أن أرى ذلك اليوم فكيف بمن عرف وطنهُ عزيزاً ، كبيراً ، عظيماً و مفخرةً للأُمم ، كيف له أن يُغَلِّف نبرته الإحباط و يكسوها السواد ؟!؟! لا يحقُ لأهل العراق ما يحّقُ لغيرهم ، لا يحّقُ لهم الإستسلام و لا يحّقُ لهم التخاذُل …… بالرغم من إتفاقي مع ما تفضلت به إلا أننا لن نستطيع أن نُنكّر أن العراق كان أفضل حالاً في زمن صدام مما يدفع اليوم حتى أعداؤه للترحُم عليه حين يَرَوْن ما آل لَهُ حال العراق ، حتى أنت لن تستطيع أن تُنكّر ذلك . نتمنى أن يعود العراق لسابق عهده و أن يتوحد أهله تحت راية الوطن لأن العراق كان و ما زال جزء لا يتجزئ من منظومة الروح . تحياتي لك و لياسمين …….
      ================
      أُستاذ مُحَمَّد ، أشكُرك على التحية و على الموضوع الجميل و كالعادة دام قلمُكَ كاتباً بحروفٍ مقروءة …….

  2. الجميل في العراق أنه كلما مرّب محنه, كلما عاد أقوى!
    هذا البلد عظيم بكل ما تحمله الكلمة من معنى!

    لا أستغرب أن تأسر ”’اللهجة الشامية”’ بسلاستها و سهولتها و تكبر في نفوس الآخرين لكن لدرجة نكران اللهجة الأصلية أممم

  3. والله ياست وهب الحلوة انا حاسة بالصدمة الي عايشها الانفصال صعب بس انتي كمان خففي الحشيش لان وضعك صار صعب صرت تخلط الشرق عال غرب ولا تركز كثير على تاج راسك الشهيد صدام حسين لان لعنتوا راح تلاحقك وأسموا يرهبك وهالمرة تحول نفسك لتوتو وسابقا قلتلك وراح أعيدها الهنود والعجم هو أنتوا جابولكم بالاحتلال البريطاني واتبعتم الهندوسي الخميني حنا أصولنا معروفة أشهر من نار على علم
    أعتذر من صاحب الموضوع بس كان لازم أرد عالمتحول

  4. بنغلاديش ونيبال وهنود وافارقة وانوف كبيرة للتفكير !!!!! بالله عليك شنو نوع الحشيش الي اخذته ؟!؟!؟!؟
    اقدر واستوعب حقدك عالعراق هو قدمتوا بطبق ذهب لإيران فبقت على الكلام !
    قلتلك لاتزيد الجرعة اشو صرت اطلع من … وتحط بفمك 😀
    يلاه بعدين نكمل الحوار الشيق الممتع 😀 والله انا بصراحة أحب الدردشة معكي بس لازم اطلع هسة أشوف ردك بالليل ست وهب

ماذا تقول أنت؟
اترك رداً على بنت الرافدين إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *