كتب حازم الأمين في صحيفة الحياة:

لا، ليس القتل حرقاً جديداً علينا، و «داعش» إذ فعله، إنما لم يأت بجديد. الذهول هو الجديد، وهو أمر يُبشر بأننا بدأنا نتحسس ما نحن فيه. في معظم حروبنا الأهلية شهدنا عمليات إحراق جثث. في العراق تبادلت الميليشيات الطائفية المتقاتلة حرق جثث قتلاها. في كردستان العراق تُقدم نساء كثيرات على الانتحار عبر إحراق أنفسهن تفادياً للعار، وتقول جمعيات نسائية هناك أن هؤلاء النسوة يُدفعن من جانب ذكور العشيرة إلى هذه الفعلة، وبعضهن يُحرقن وتُثبت الوقائع بصفتها انتحارات.

وفي الماضي القريب (سبعينات القرن الفائت) لاحظ باحثون أن الانتحار حرقاً هو خيار المنتحرات، واعتبر انتحاراً بدائياً غيرياً وهو نادر وتشهده الأرياف والبيئات غير المدينية. أما إحراق الغير فينطوي على رغبة تطهيرية، يُطهر خلالها الحارق نفسه من شعور بالعار والخذلان.

لطالما ارتبط فعل الحرق في وعي الحارق برغبة في انتهاك ما هو أكثر من جوهر سياسي في جسد المحروق. القتل هنا أكثر من سياسي، وأكثر من انتقامي. هو رغبة في انتهاك أكثر من إنسانية الإنسان. انتهاك جوهره ومعناه. ولطالما أيضاً لاحت امرأة وراء فعل الحرق، ذاك أن المرأة في وعي الحارق هي ما يجب أن يُنتقم له أو منه. وفي هذه الحال يستحيل الحرق فعلاً نفسياً، ويستحيل أيضاً استجابة هذيانية لشعور بأننا نحرق في ضحيتنا عارنا. نفنيه ولا نُبقي على أثر منه.

والحال أن الاستغراق في تفسير فعلة «داعش» حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة بغير ذلك قد يبدو منطقياً، إلا أنه يوقعنا بفخ التفسير «المنطقي» لهذه الجماعة. ماذا أرادت من وراء تصوير فعلتها؟ هذا السؤال الذي طُرح ملايين المرات في الأيام القليلة الفائتة، لا يجيب عن سؤال أهم، هو: لماذا أحرقته ولم تذبحه على ما دأبت على فعله بغيره من أسراها طوال السنة المنصرمة؟

يجب أن لا نبتعد كثيراً في تفسير الفعلة، فلدينا عدة التفسير البدهية. ثمة امرأة وراء هذه الفعلة. ساجدة الريشاوي. وقبل أن يتبادر إلى ذهن أحد أن ذلك يعني أن لهذه المرأة السجينة دوراً وإرادة في قرار إحراق الطيار الكساسبة، يجب المسارعة إلى القول أن ساجدة كقضية وارتدادها كسجينة بصفتها عاراً على عشيرتها وعائلتها، هي ما يجب أن تدور شبهات التفسير حوله.

فالريشاوي أُرسلت في مهمة مع زوجها الذي «عقدت عليه» قبل أيام من تنفيذها المهمة. هو فجّر نفسه وهي «لم تنجح»، ويقول الباحثون في الانتحار أن معظم محاولات الانتحار الفاشلة يُقدم عليها أشخاص لا يرغبون في الانتحار. ويُعزّز هذا الاعتقاد في حالة ساجدة أنها امرأة، وغالباً ما لا يرتبط انتحار المرأة بفعل قتل الغير. لكن، يبقى ذلك من باب التوقع والاستشراف طبعاً.

لكن الأكيد أن عائلة ساجدة المباشرة، هي من أرسلها لكي تقتل نفسها وتقتل آخرين. هي من عائلة «قاعدية زرقاوية» شقيقها كان أمير الأنبار في «القاعدة»، وأشقاؤها الآخرون ناشطين في التنظيم. وتملك الريشاوي سيرة شخصية مضطربة تجعل من قرار عائلتها التخلص منها أمراً محموداً في الوعي العشائري، لا سيما أن موتها سيُستثمر في فعل «جهادي».
لا شك في أن فشل الريشاوي بتفجير نفسها خلف مرارة وبعض العار في وجدانات أشقائها أبناء الفرع «القاعدي» في عشيرة أبو ريشة الأنبارية. لقد فشلت شقيقتهم في المهمة التي أرسلوها من أجلها. لا بل إن الزرقاوي الذي استعجل نعيها «شهيدة» قبل أن يعرف بهربها من الفندق بعد أن فجّر شريكها و «زوجها» نفسه، أصيب أيضاً بخيبة. فكيف لأمير التنظيم الذي يشغل العالم أن ينعى «شهيدة» لم تبلغ الشهادة.

العار مضاعف هنا. أُرسلت الشقيقة لكي تموت ولكي تدفن معها قصص اضطرابها النفسي، ولكي تكون «شهيدة»، ولم تُقدم على الموت. لا بل إنها تحولت سجينة في قبضة رجال المخابرات الأردنية، وهم رجال. أي عار هذا؟ من رأى وجه ساجدة في المحكمة أثناء محاكمتها في عمان عاين مقداراً كبيراً من هذه الصور. لا شك في أن أشقاءها كانوا يتقافزون في وعيها وفي نظراتها أثناء المحاكمة. الصمت والعبارات القليلة غير الحاسمة التي نطقتها في قاعة المحكمة توحي بأن مأساة وقعت خلف مأساتها الخاصة المتمثلة في عدم ضغطها على صاعق التفجير. خوف مما يجري خارج قاعة المحكمة، هناك في الصحراء الممتدة من الرطبة إلى الرمادي.

أحرق الكساسبة بمقدار كبير من الرغبة الانتقامية، وهي رغبة لا يُمكن فصلها عن وعي عشائري باجتثاث العار وبمحوه، ومن غير المستبعد أن تكون وراء فعل الإحراق أيضاً رغبة في قتل ساجدة. قتل عقابي أيضاً، فالأشقاء الذين فجعوا بامتناع شقيقتهم عن الموت، وبقبولها أن تبقى حية في أيدي رجال غرباء، يرونهم «رجال عشائر أخرى»، من المنطقي أن يُرتبوا مشهد حرق الكساسبة. وقائع كثيرة تُساعد على هذا الاعتقاد. «داعش» أطلق على ساجدة في بداية المفاوضات على مصير الكساسبة اسم «أم المسلمين»، وهذا على سبيل تسمين الطريدة، وهو فاجأ العالم بإحراق من كان سيعيد إليه «أمه»، أيضاً بهدف التعجيل بقرار إعدام هذه الأم غير الحقيقية. فالقتل غير «الأوديبي» للأم يؤشر إلى أن ساجدة لم تكن يوماً «أماً»، إنما كانت مجرد شقيقة مضطربة أُرسلت للموت ولم تُقدم عليه.

المسرح الذي أعد لعملية إحراق الكساسبة وتقنيات التصوير المتقدمة تبقى مسألة أكسسوارات. الدافع للفعلة يتقدم في أهميته على وقائع تظهيرها. «داعش» في هذه اللحظة هو الفرع «الزرقاوي» من عشيرة الريشاوي، ولهذه ثأر قديم مع الأردن. المملكة كان لها دور في قتل الزرقاوي، والأخير هو «أب» العائلة وأب «داعش». ليس «حزب البعث» الذي في وجدان «داعش» هو من فعلها على ما حاول «سلفيون جهاديون» قوله في محاولة لنسبة همجية الفعلة إلى غير «شرعيي داعش»، وليس البعد «الهوليودي» الذي دأب التنظيم على تظهيره من خلال أفلام أعدها وبثها عبر «يوتيوب»، هو من فعلها أيضاً. ربما تكون قد أوكلت لهؤلاء مهمة ترتيب المسرح. فالإحراق فعلة تتصل بثأر غير جماعي، يتولى فيها الحارق غسل عار يُغلف النفس المريضة أصلاً، ويسعى من خلاله إلى اجتثاث أثره عبر «إفناء» جثة ضحيته، وهذا الطقس لا يكتمل من دون رماد.

شارك الخبر:

شارك برأيك

تعليقان

  1. السؤال هل الكتكوت من البيضه ام البغيضه من الفرخه ؟؟؟
    وعجبي
    تحليل لواحد عامل دماغ بصحيح

  2. الداعشيون بدائيون ويدعون السلفية لذلك يستعملون الوسائل البدائية في القتل مثل الذبح والحرق لانه في زمن نشوء الاسلام لم تكن الرصاصة معروفة وهي ارحم طرق القتل .
    الحارق يحمل شحنة كره وانتقام كبيرة في نفسه لذلك يقدم على الحرق وهذا مايشفي غليله وليس لانه حلاً للتخلص من الشخص المختلف معه في المفاهيم. لذلك سميت العملية بشفاء الصدور . هذا يدل على ان الدواعش نفوس مريضة وهم في الغالب خريجين سجون , او من دور اللقطاء لم يشعروا بالدفأ العائلي بحياتهم وفاقد الشيئ لايعطيه .
    ولو اراد الانسان ان يتخلص من الفكر اللذي لايتفق معه فهذا يتم عن طريق الاقناع والنقاش وليس القتل او الحاق الضرر بالآخر

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *