إنها جولة أخرى للسوري التائه في هذا الزمن الرديء…….

لم تعد كلمة أزمة التي يستخدمها النظام تعبيراً صالحاً عن الكارثة السورية بعد أن صارت وصفاً لشعب منكوب، يتشرد نصف سكانه في الأرض ويتوزع ربعه الآخر بين المقابر والمشافي والمعتقلات، ويعيش الربع الأخير في عالم الرعب من قلة الموت، ولم تعد كلمة ثورة التي تستخدمها المعارضة مقنعة لأحد بعد أن انجرفت إلى طوفان العنف الطامي، واستدارت ببنادقها على الزوايا الأربعة، وضربت في المليان، ضد النظام وضد حواضن النظام، وأخيراً ضد فصائلها شركاء السلاح والبندقية.

وربما كان التعبير الأدق فيما يجري على أرض سوريا هو أنها النكبة….. النكبة بكل إسقاطاتها التاريخية والإنسانية والجغرافية، ولهذا المصطلح أخواته في المعجم العربي: المأساة .. الكارثة… المصيبة…. وهي مصطلحات لا تعجزنا نحن العرب البارعين في تسمية هزائمنا المتتالية كما جمعها الماغوط في أحد مقالاته الباكية: نكبة ونكسة واجتياح ولاجئين ونازحين ووافدين ومهجرين وغير ذلك من نعوت الهزيمة والخيبة منذ أن فارقنا خطاب العقل وركبنا خطاب الثار.

منظمتا نورف النرويجية وسويس بيس السويسرية تنضمان إلى الجهود الطيبة هذه المرة بهدف العمل على وضع حد للصراع في سوريا، وفي مونترو حيث انعقد أول لقاء بين النظام والمعارضة كانت هذه الجولة الجديدة من اللقاءات بمشاركة السيد الأخضر الابراهيمي، بمثابة خط آخر للحوار على مستويات مختلفة.

محاولات من منظمات مخضرمة في حل الصراعات الدولية ونشر السلام، تشارك اهل النخوة والراية والحمية والغيرة، في الدعوة لإنهاء الصراع والبخث عن حل بين هذه الركام، ولكنها كسائر المحاولات تصطدم بحائط الواقع المرعب للكارثة السورية التي لا يشبهها شيء في هذا العالم.

قبل شهور حضر المفاوضون إلى جنيف من النظام والمعارضة على عزف جيوش إعلامية هادرة، وعاش الشعب المقهور في سراب الأوهام الكاذبة أياماً قليلة، يمني النفس بفرج قريب، قبل أن يستفيق بعد أيام على ما هو أقسى من الكارثة المريرة التي يعانيها منذ ثلاث سنوات، وحين رجع الفرسان من مونترو كان الطرفان يتحدثان عن انتصارات ماحقة، وكانت تتبعها دعوات للشعب للابتهاج بالنصر المبين، لم يكن النصر الذي أعلنوا عنه وقف الموت ورفع الحصار وعودة المهجرين وبناء المصالحة وتحرير الجولان، لقد كان نصراً من ورق، طافح بالإثم، وبعد أن انتظر السوريون شهوراً طويلة فرصة الخلاص عبر جنيف، جاء خطاب النصر الساحق من نوع: لقد فضحناهم وكشفناهم وأحرجناهم وألقمناهم حجراً وحشرناهم في الزاوية وكشفنا للعالم دجلهم وكذبهم وزيفهم….. وهي ادعاءات تصلح أن تنسبها لكل من الطرفين المتقاتلين، دون أن تتكلف شيئاً غير تبديل الأسماء، فالنصر في معيار المتحاربين في جنيف هو البلاغة الخطابية والتعابير الصوتية والبراهين الخطابية التي تم إلقاؤها في عكاظ السويسري، ولكن لا شيء على الأرض يتغير سوى أعداد القتلى….

وحده الأخضر الابراهيمي أطل على الناس من قاعة كئيبة وقال أعتذر للسوريين، لقد فشلنا ولم نستطع أن نوقف حمام الموت، ولم نتقدم مع السوريين إلى يوم الأمل، وما زال الحال من بعضه، ولا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.

بالطبع نال الرجل نصيبه من المعسكرين الصاخبين، ولكنه قدر الاعتدال والحياد في هذه الحرب المجنونة.

لست مخولاً بالطبع بالكشف عن تفاصيل اللقاء الأخير، وهناك تفاصيل يقتلها السبق الإعلامي ويجهض غاياتها، ولكنه في باب النوايا يقع من وجهة نظري في أشرف المساعي نبلاً وقصداً، فالنخبة التي التقت هنا تضم بالفعل عدداً ممن يشار إليهم بالرجاء والأمل في مدن سوريا المنكوبة، لديهم صوت مسموع، ومكانة في نفوس الناس، وهم يعملون بإخلاص على خدمة الكلمة وإحياء روح التفاوض والرجاء من جديد.

محاولات لإحياء ما يسمى في منطق التفاوض السياسي تراك تو أو المسار الثاني والمقصود بالطبع لقاءات على مستوى مختلف، فحين يخفق السياسيون في موقع القرار في التقدم خطوة واحدة إلى الأمام فإن المطلوب أن يتقدم آخرون يحملون الغيرة نفسها على وطنهم الذبيح، من خارج دائرة القرار ينفخون في دائرة الأمل.

محاولات تندرج في فصل المستحيل والمعجزة، ولكنها القشة التي يتعلق بها الغريق في محنته الدامية، كان عنوان هذا الرجاء فيها أن ننصب منبراً يلتقي فيه العلم الأحمر والأخضر، بعد صراع دام سقط فيه وفق الناطقة الرسمية باسم النظام ربع مليون شهيد!!!…….

لكل فريق من المتحاربين أسبابه ومبرراته، ونكفر بعقولنا إن تصورنا الضفة الأخرى بدون ضمير، والسوريون يحملون القناعة إياها سواء رفعوا العلم الأحمر أو الأخضر، ولكن القدر المشترك من الحقيقة الذي يجب الاعتراف به دون تحفظ هو أن العنف لم يجلب لسوريا غير الخراب والموت والقهر والحقد الدفين، الجميع هنا مدعو للكفاح من أجل وقف طاحونة الموت، بعد أن صار الموت أهون من شربة المي في بلد كان يباهي بأنه أرض السلم والأمان.

لقد ناديتهم من منبر جنيف…. نعم بإمكاننا أن نلتقي… الأحمر والأخضر، على مستوى برلمانيين وأكاديميين ورجال دين وفنانين، خارج لعبة الحرب، تعالوا نتصارح أننا ارتكبنا أفظع الرذائل حين وقفنا ذات يوم نحيي البندقية، ونشيد بطهرها وصفائها ونبلها ورسالتها، قبل أن تتقدم كعاهرة محترفة، تؤجر من كتف لكتف، ليس لها قلب ولا شرف، ترقص على الأشلاء وتقول هل من مزيد، وتستمر في سكرة الموت حتى ينصب الأحمر بسطاره العسكري في صدر ساحات الوطن، ويكبر الأخضر وهو يقصف أبناء وطنه بمدفع جهنم.

هناك سوريون كثير في مكان آخر لا يريدون الحرب، ولا يؤمنون بها، ولا يرون فيها إلا حكاية القهر والظلم، حكاية الإنسان الذي كفر بربه وأعماه الحقد حتى لم يعد يرى في أخيه الإنسان إلا رغبة الموت الماحقة.

من حق القراء الكرام أن نضعهم في صورة بعض ما جرى، خاصة أن الأسماء الكبيرة التي شاركت هي محل ثقة في الشارع السوري، من نوع تلك الزعامات الوطنية التي يعرفها السوريون جيداً، تذكرك رجال الاستقلال الكبار من الكتلة الوطنية، ومن حقنا وربما من واجبنا أيضاً أن نتحفظ على بعض التفاصيل والأسماء المشاركة، حماية لها من شيطان الانتقام، وغائلة الموت.

شارك الخبر:

شارك برأيك

تعليق واحد

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *