مرسلة من أم ريان

لقد جاء الإسلام بحفظ دماء الناس وأعراضهم وأموالهم وكافة حقوقهم وما يكفل لهم طيب العيش وهناء البال كالأمن والصحة والغذاء ونحو ذلك ، ونهى عن كل ما يسوؤهم أو يسيء إليهم أو ينقص من تلك الحقوق أو يثير الفوضى ويخل بالأمن ، بل جعل المؤمن من أمنه الناس ، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده .

وإذا حرم الله أمراً حرم الوسائل الموصلة إليه والموقعة فيه ، فلما منع الشرك سدّ الذرائع الموصلة إليه ، فمنع من اتخاذ القبور مساجد أو البناء عليها أو إسراجها ، ولما حرم الزنى قال : (( ولا تقربوا الزنى )) ( الإسراء : 32 ) ، فمنع من الوقوع فيما يثير شهوة الإنسان المحرمة من النظر المحرم أو السماع المحرم أو الخلوة بالأجنبية أو مسها ، ولما حرم الربا حرم الصور المفضية إليه كبيع العينة وغيره .

وإن من أعظم الطرق المفضية إلى انتشار الفوضى واضطراب الأمور بث الشائعات المختلفة والافتراءات الأثيمة التي عريت تماماً عن أي وجه من وجوه الحق ، خاصة في أوقات الأزمات والفتن ، حينما تكون الأمة في أمس الحاجة إلى توحيد الكلمة واتحاد الصف وضبط الأمن .

إن تاريخ الشائعة قديم قدم هذا الإنسان ، وقد ذكر في كتاب الله عز وجل نماذج من ذلك منذ فجر التاريخ ، وبقراءة في تاريخ الأنبياء عليهم السلام وقصصهم نجد أن كلا منهم قد أثير حوله الكثير من الشائعات من قبل قومه ، ثم يبثونها ويتوارثونها أحياناً ، ولاشك أن تلك الشائعات كان لها الأثر في جعل بعض المعوقات في طريق دعوة أولئك الأنبياء والرسل .

فهذا نوح عليه السلام اتهم بشائعة من قومه بأنه : (( يريد أن يتفضل عليكم )) ( المؤمنون : 24 ) ، فيتزعم ويتأمر ، وقيل له : (( إنا لنراك في ضلال مبين )) ( الأعراف : 60 ) ويشاع عنه بأنه مجنون .

وهذا نبي الله هود عليه السلام يشاع عنه الطيش والخفة والكذب ، كما قال تعالى : (( إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين )) ( الأعراف : 66 ) ، ويتهم بالجنون ؛ (( إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء )) ( هود : 54 ) .

ثم هذا موسى عليه السلام يحمل دعوة ربه إلى فرعون ومثله وقومه ، فيملأ فرعون سماء مصر ، ويسمّم الأجواء من حوله بما يطلق عليه من شائعات فيقول : (( إن هذا لساحر عليم . يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره )) ( الشعراء : 34 – 35 ) ، ويتهمه بالإفساد : (( إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد )) ( غافر : 26 ) .

وأما في عهد النبي وأصحابه ومن بعدهم فخذوا على سبيل المثال حين أشيع بأن مشركي مكة قد أسلموا رجع من رجع من المهاجرين من هجرة الحبشة الأولى ، وقبل دخولهم علموا أن الخبر كذب ، فدخل منهم من دخل ، وعاد من عاد ، فأما الذين دخلوا فأصاب بعضهم من عذاب قريش ما كان هو فاراً بدينه منه .

وفي معركة أحد عندما أشاع الكفار أن الرسول قتل فت ذلك في عضد كثير من المسلمين ، حتى إن بعضهم ألقى السلاح وترك القتال .

وفي حمراء الأسد بعد غزوة أحد مباشرة تأتي الشائعة : (( إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم )) ( آل عمران : 173 ) .

ومن أعظم الشائعات التي هزت المجتمع الإسلامي بأكمله وجعلته يصطلي بنارها شهراً كاملاً إضافة إلى أنها كلفت أطهر النفوس البشرية على الإطلاق وأطهر البيوت رسول الله وبيوته آلاماً الله يعلم قدرها ، إنها شائعة الإفك التي أطلقها رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول لعنه الله ، فراجت وماجت في المجتمع المدني ؛ فمنهم من تلقاها بلسانه ، ومنهم من سكت ، ومنهم من ردها وقال : (( ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم )) ( النور : 16 ) .

وبعد عهد النبي كانت الشائعة السبب الأول والرئيس في قتل الخليفة الراشد المهدي عثمان بن عفان ، تجمع أخلاط من المنافقين ودهماء الناس وجهلتهم ، وأصبحت لهم شوكة ، وقتل على إثرها خليفة المسلمين بعد حصاره في بيته وقطع الماء عنه ، بل كان من آثار هذه الفتنة أن قامت حروب بين الصحابة الكرام كمعركة الجمل وصفين ، فمن كان يتصور أن الشائعة تفعل كل هذا ؟! بل خرجت على إثرها الخوارج ، وتزندقت الشيعة ، وترتب عليها ظهور المرجئة والقدرية الأولى ، ثم انتشرت البدع بكثرة ، وظهرت فتن وبدع وقلاقل كثيرة ، ما تزال الأمة الإسلامية تعاني من آثارها إلى اليوم .

ولو قرأت التاريخ لوجدت صفحاته ملأى بشائعات غيرت حياة كثير من الناس ، وربما ألغتها ، ودفنتهم تحت التراب .

إن هناك هيئات وأصنافاً من الناس في كل مجتمع قلوبها مريضة ، وأرواحها ميتة ، وذممها مهدرة ، لا تخاف من الله ، ولا تستحي من عباد الله ، مهنتهم ووظيفتهم وهوايتهم نشر الشائعات في أوساط الناس ، تتغذى على لحوم البشر ، وترتقي على أكتاف وحساب غيرها .

ومن أعظم الوسائل المعينة لهم على فتنتهم شبكات الإنترنت، حيث صارت هذه الشبكات لهم مسرحاً يعبثون فيه بأمن الناس وأديانهم وعقولهم ، فأنساق وراءهم بعض العامة والجهلة ، ففتنوا بفتنهم ، ووقعوا في تقليدهم ، فصارت تلك المواقع والمنتديات مصدراً رئيساً لهؤلاء الغوغاء ، يصدرون عن آرائها وما يبث فيها ، ولا يكاد ينزل فيها خبر عن شخص أو دولة أو حومة أو أمة إلا وينتشر انتشار النار في الهشيم في كافة المنتديات وبشتى صور العرض ، ويتفنن في جذب الانتباه .

صار كثير من الناس . وخصوصاً الشباب ، يصدرون الأحكام بناء على ما يكتب على صفحات تلك المنتديات ، دون معرفة وتوثق من مصدرها ، فإذا كان العلماء قد ضعفوا رواية معلوم العين ومجهول الحال فما بالك برواية مجهول العين والحال ؟!

ونطقت الرويبضة في شبكات الإنترنت ، وهو الرجل التافة الذي يتكلم في أمر العامة ، صار كثير ممن لا يعرفون وهم في الحقيقة ناقصو علم وعقل ، وليس لهم من الأمر شيء ، صاروا يتكلمون في أمر الأمة ويوجهون ، ويحكمون على الناس وأديانهم ، ويكفرون ويبدعون من يشاؤون .

(( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين )) ( الحجرات : 6 ) .

إننا نعيش في زمن كثر فيه ترويج الشائعة ، ولكي لا تؤثر هذه الشائعة على المسلم بأي شكل من الأشكال فلا بد أن يكون هناك منهج واضح محدد لكل مسلم يتعامل به مع الشائعات ، وهذا المنهج يتلخص في أمور :

الأول : أن يقدم المسلم حسن الظن بأخيه المسلم ، قال الله تعالى : (( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً )) ( النور : 12 ) .

الثاني : أن يتوثق من صحة النقل ، ويطلب المسلم الدليل عليه ، قال الله تعالى : (( لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء )) ( النور : 13 ) .

الثالث : أن يكل أمره إن كان من أمور العامة إلى أولي الأمر الذين يستنبطونه منهم : (( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعمه الذين يستنبطونه منهم )) ( النساء : 83 ) .

وأخيراً ، فإن عظم شأن الشائعة أورد فيها عقوبة عظيمة لمتولّي كبرها ، عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله : (( إنه أتاني الليلة أتيان ، وإنهما ابتعثاني ، وإنهما قالا لي : انطلق … )) ثم ذكر الحديث .

وكان مما قال : (( فأتينا على رجل مستلق على قفاه ، وإذا آخر قائم بكلوب من حديد ، وغذا هو يأتني أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه ، ومنخره إلى قفاه ، وعينه إلى قفاه ، ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول ، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان ، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى )) ، ثم جاء خبره في آخر الحديث ، حيث قال له الرجلان : (( إنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة فتبلغ الآفاق )) رواه البخاري .

المصدر: مجلة الدعوة – العدد ( 2309 )

عبد الله عبد العزيز التميمي

شارك الخبر:

شارك برأيك

‫18 تعليق

  1. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» رواه مسلم.
    “”””””””””””””””””
    “إن هناك هيئات وأصنافاً من الناس في كل مجتمع قلوبها مريضة ، وأرواحها ميتة ، وذممها مهدرة ، لا تخاف من الله ، ولا تستحي من عباد الله ، مهنتهم ووظيفتهم وهوايتهم نشر الشائعات في أوساط الناس ، تتغذى على لحوم البشر ، وترتقي على أكتاف وحساب غيرها ……. ”

    ….. اللهم لا تجعلنا منهم فنكون من الخاسرين .. ولا تقربنا منهم فنكون من النادمين …!!
    .. شكراا ام ريان موضوع حلو متل اطلالتك الحلوة ^_^ ..
    سلام

  2. صباح الخير كارو
    صدقت ام ريان الشائعت آفة كل المجتمعات الباقية ما بقيت النفوس المريضه الضعيفه
    شكراً لكِ ام ريان

  3. قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : “انها ستكون سنون خداعات .. يخون فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن .. ويكذب فيها الصادق .. ويصدق فيها الكاذب .. وينطق فيها الرويبضة .. قالوا وما الرويبضة يا رسول الله ؟ قال : الرجل التافه يتكلم فى أمر العامة

    ونفوض امرنا الى الله ان الله بصير بالعباد
    شكرا اختي ام ريان بارك الله بك وجعله في ميزان حسناتك ان شاء الله
    موضوع رائع

  4. قال شعبة بن النعمان: “كان علي بن الحسين يُبَخَّل، (اي يصفونه بالبخيل) فلما مات وجدوه يقوت مائة أهل بيت بالمدينة”

  5. موضوع قيم و يضع اصبعه على مركز الجرح فما فيه اشطر مننا في اختراع الاشاعات و الترويج لها شكرا ام ريان

  6. قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير» [صححه الألباني].

  7. فعلا الشائعة من أبرز المظاهر الدالة على القلب المريض وأذاها ليس بسيطا ولا يسيرا سواء تعلق بشؤون عظيمة تخص الأمة أو بشؤون تتعلق بالافراد الذين حولنا.
    ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) …شكرا أم ريان على نقل الموضوع مشاركة قيمة كالعادة متألقة .اتمنى من كل اعضاء نورت قراءة الموضوع ويعتبرون ولو قليلا.

  8. مراحب في يناير 10, 2012 10:38 ص رد
    قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : “انها ستكون سنون خداعات .. يخون فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن .. ويكذب فيها الصادق .. ويصدق فيها الكاذب .. وينطق فيها الرويبضة .. قالوا وما الرويبضة يا رسول الله ؟ قال : الرجل التافه يتكلم فى أمر العامة
    ونفوض امرنا الى الله ان الله بصير بالعباد
    شكرا اختي ام ريان بارك الله بك وجعله في ميزان حسناتك ان شاء الله
    موضوع رائع
    _________________________
    شكرا لك أم ريان عسى ايامك طيبة تحياتي وسلامي لك

  9. كلام منقول من كاتب مدلس لايعرف تدابيره ( حنطته اكلت شعيره )
    يحذر من الفتن متحير حيرة ضلال لايزن بميزان عدل ما في التاريخ جرى ولا يقيس ايامه سوى ولا يعرف غده سيأخذه الى اي مدى , يحاول ان يكون له الى كل قلب شفيع ! اه اه كم له في طرق نورت وغيرها صريع ……الهي فأجعلنا من الذين … قدكشف الغطاء عن ابصارهم وانجلت ظلمةالريب عن عقائدهم وضمائرهم وانتفت مخالجة الشك عن قلوبهم وسرائرهم وانشرحت بتحقيق المعرفة صدورهم

  10. أشكر كل من تفاعل مع الموضوع و ترك بصمته نورتم الصفحة……….
    وهب آسفة لأني لا أستطيع أن أنقل مايروق لك هدانا الله و إياك و نور قلوبنا و أبصارنا للحق آميين….

  11. الغريب أن من يطلق الاشاعات مثله مثل اليهودى اللى بيكذب الكذبة وبيصدقها
    الموضوع جميل يا أم ريان، ومحتاج ردووود مش مجرد رد واحد، ولذلك سأكتفى بجملة وردت فى موضوعك القيم “صار كثير من الناس . وخصوصاً الشباب ، يصدرون الأحكام بناء على ما يكتب على صفحات تلك المنتديات ، دون معرفة وتوثق من مصدرها ، فإذا كان العلماء قد ضعفوا رواية معلوم العين ومجهول الحال فما بالك برواية مجهول العين والحال ؟!”…. مشكورة أم ريااان.

  12. فعلا المنتديات كثيرا ما تغذي الشائعات وأغلبنا ينجر وراءها من غير تمحيص، ولو أمسكنا عن الخوض فيما لا دليل فيه كان أبرأ للجميع، ولكن من كثر كلامه كثر ملامه
    بوركت أم ريان

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *