هجر رواد مقاهي دمشق كراسيها، وغاب عن تلك المقاهي التي حملت تاريخ المدينة، شباب ورجال ونساء كان الجلوس بالمقاهي واحداً من أهم عاداتهم.
وبعد أن شكلت تلك الأماكن في بداية الثورة السورية مكاناً للقاء والنقاش والجدال، تحولت لتصبح مقراً لشبيحة النظام ولصراخهم ولتعاليهم على الموجودين والعاملين في المقهى.
ولطالما رسمت المقاهي صورة للمجتمع الدمشقي بتلاوينه وأفكاره، حين غابت المراكز الثقافية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وأخذت هي دوراً سياسياً وثقافياً فعالا، فأدارت حلقات نقاش ساخن حيناً، وجلسات المزاح وفش الخلق حيناً آخر، وعاد هذا الدور للظهور ثانية في بداية الثورة، وشكلت منطلقاً للعديد من المظاهرات في العاصمة.
اعتقالات من مقاهي حملت التاريخ
لم يقتصر دور تلك المقاهي خلال الثورة على شرب القهوة أو الشاي ولعب الطاولة، وحلَّ بعضها محلَّ مقرَّات الأحزاب والمراكز الثقافية؛ فاجتمع ناشطون على مقاعد مقهى الروضة واحتدم النقاش على طاولات متجاورة، جلس مؤيدون على واحدة ومعارضون على أخرى، وانطلق منها شباب في أول مظاهرة خرجت من المسجد الأموي، إذ تم الاجتماع بـ”الروضة” والانطلاق فرادى إلى المسجد.
ولكن الرضة ما لبثت أن تحولت لمركز للشبيحة، يدخلون إليها بعد أن تنتهي مسيراتهم المؤيدة التي تهتف للرئيس الأسد، ويبقى موقع مقهى الروضة في قلب دمشق بشارع العابد مناسباً لكل تلك المسيرات، لأنها طالما احتكرت المناطق الأكثر رقياً والأكثر استفزازاً للمشاعر في قلب المدينة.
وإن كان الرئيس الأسبق شكري القوتلي ورئيس الوزراء صبري العسلي ورشدي الكيخي جلسا على كراسي مقهى “البرازيل” مثلا في شارع بور سعيد، فإن مقهى الروضة احتضن جميع مثقفي سوريا باختلاف محافظاتهم ومدنهم، ولم يحتج يوماً أولئك المثقفون والفنانون لضرب موعد فيما بينهم، وكأن الروضة أخذت دور الساعة والموعد.

دمشق
وتحول مقهى “الكمال” خلف وزارة الداخلية الذي كتب الأديب الراحل معروف الأرناؤوط رائعته “سيد دمشق” على كراسيها إلى ما يشبه المخبز، والذي تحول دوره هو أيضاً إلى مقر لعناصر الأمن والشبيحة، بعد أن كان شباب دمشق الصغار يعرفون تاريخ المخبز وماضيه، ومن حسن حظ الأديب الأرناؤوط أنه لم يعش إلى الآن ليرى مقهاه المفضل يتحول إلى مخبز.
لكلٍ مقهاه في دمشق!!
مقاهٍ للمثقفين، ومقاهٍ للعاطلين عن العمل، بالإضافة إلى مقاهٍ “حسب الأحوال المادية والمكانة الاجتماعية”. تلك مقاهي دمشق التي اتسعت لتلاوين المجتمع، واشتهرت تبعاً للوظائف والمهن؛ فكانت المتنفس للرجال على اختلافهم وتمايزهم، لينحسر دورها مع تغير المجتمع، ولينتهي تماماً مع غياب الناس الفعليين وانتشار أشخاص قد يقبضون على كل من لا يعجبهم في الشارع، وليتركز نشاطها على تقديم القهوة والشاي للزبون ” الشبيح الطيار”.
خبّيني
لم يكن لمقهى النوفرة الأهمية التي يملكها الآن، بل ذهبت الشهرة إلى مقهى بجانب النوفرة مقابل الباب الخلفي للجامع الأموي.. ويمكن ملاحظة غرابة وخصوصية ذلك المقهى بداية من اسمه “خبيني”.
“خبيني” اسم غريب لمقهى ضمَّ أشخاصاً ينتمون إلى ذلك الاسم؛ فكانوا يحبون العزلة، ويكرهون الانسجام مع المحيط، فشكلوا مع المقهى حالة انتهت ولن تتكرر. والطريف في أمر المقهى ورواده، هو الحميمية الطاغية عليهم، التي تظهر جلية بعد فقدان أحدهم؛ حيث تُخلد ذكرى المتوفى بالاحتفاظ بنبريش نرجيلته، وعدم استخدامه ثانية، وتعليقه على جدران المقهى، بعد إعطائه رقماً متسلسلا، ليصبح الراحل رقماً تدور حوله أحاديث الذكريات بدلا من اسمه.
وغني عن القول إن النوفرة وخبيني الآن تجاهلا تاريخهما، واحتضنا الحاضر بكل ما حمله من اعتقالات، إذ شكل مقهى “خبيني” و”النوفرة” معتقلاً صغيراً لكل من حاول الخروج من الجامع الأموي، ومع محاولات متكررة وكثيرة لاستخدام المسجد للخروج بمظاهرة تحول هو نفسه إلى معتقل، وحديثاً أخذ دوره كمدفن للبوطي بجانب قبر خالد بن الوليد، وهو ما جعل مؤيدي الثورة والثوار يعتبرون المنطقة بأكملها خطرة ولا يمكن الاقتراب منها.
مقهى الكشيشة
إن كانت المزة تميزت سابقاً بانتشار “كشيشة الحمام” فيها، فإنها أنشأت مقهى كاملا حمل اسم “الكشيشة”، وطبعاً شكَّل هؤلاء زبائن دائمين للمقهى الأشهر في المزة القديمة “مقهى الكشيشة”، حيث اقتصر زبائنه على المهووسين بتربية الحمام وليس على سكان المنطقة، وكان مقصداً للكثيرين من أنحاء دمشق ومناطق الريف القريبة من المزة.
شهد المقهى جنون الحميماتية اليومي، واتفاقاتهم حول الإفراج عن الحمام المسروق والمصالحة عليه، وهو ما يعرف “بالفكاك”، وكذلك المقايضة والبيع والشراء. ويبقى الحمام وقصصه محور أحاديث رواد المقهى منذ الصباح وحتى نهاية النهار من “البربيسي” إلى “المسود”؛ فيعلو صوت الصراخ أحياناً عندما يفشل أحدهم في استرجاع طيره، وضحكة آخر تمكن من الحصول على “طير” جديد ولو بالنصب والاحتيال أو حتى اليمين الكاذب.
ولتسقط المزة في ظلام من الاعتقالات والمداهمات والقصف، ومحاصرة لكل ما يمكن أن يكون مكاناً للتجمع ابتداء بالمساجد الكثيرة المنتشرة في المزة وانتهاء بكل المقاهي فيها.
للمقهى في دمشق عالم آخر.. حكاية أشخاص وأماكن، ليال من ألف ليلة، وذكريات أشخاص قد تختلف على كلّ شيء لتتفق على مقهى.

شارك الخبر:

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *