بلادي، وإن جارت عليَّ .. عزيزةٌ / وأهلي، وإن ضنّوا عليَّ، كرامُ ..

بيتٌ من الشعر هو أحد الأبيات الكثيرة مجهولة المصدر، بمعني أدق، أحد الأبيات المختلف علي قائلها، نسبه البعض إلي “أبي فراس الحمداني”، وهو، وإن كان يشبهه من حيث طريقة التناول والبصمة الشعرية، لا يتفق أبداً من حيث الطرح مع خُلُق “أبي فراس” أحد أهم فرسان زمانه، ثم هو، بالنظر إلي مفرداته، أحدث عمراً من “أبي فراس” ..

نسب أيضاً إلي “أحمد شوقي” وهذا مضلل وغريب ..

كما ورط بعض الرواة في بيتٍ آخر قيل أن هذا البيت تحريف له، وهو :

بلادي، وأن هانت علىَّ عزيزة / ولو أننى أعـرى بها وأجوع ..

ورط الرواة في هذا البيت الأخير، “قتادة أبوعزيز بن إدريس بن مطاعن بن عبدالكريم بن موسى بن عيسى بن سليمان بن عبدالله أبى الكرم بن موسى الجون بن عبدالله بن حسن بن الحسن بن على بن أبى طالب”، وعلي الرغم من جهلي التام بحياة ذلك الشاعر، لست مستريحاً لهذه الرواية، لكني مضطر إلي تصديقها، لا لشئ سوي أنه لابد في النهاية من شاعر يقف وراء هذا البيت الذي صار سئ السمعة بعد أن تردد علي لسان المخلوع “محمد حسني مبارك” أثناء إحدي جلسات محاكمته، وهي محاكمة ثورة “25” يناير في نفس الوقت!

شئ آخر يحرضني علي استبعاد نسبة هذا البيت إلي “قتادة بن إدريس”، وهو أنه لا يمكن أن يولد إلا في حواس مشبعة بقيم البادية ومسيجة بتقاليدها، حيث تفوح منه رائحة الخيمة والوتد وريح الشمال، ويعكس في الذاكرة علي الفور شعر “طرفة بن العبد” حين يقول :

فَمَا لِي أَرَانِي وَابْنَ عَمِّي مَالِكـاً / مَتَـى أَدْنُ مِنْهُ يَنْـأَ عَنِّي ويَبْعُـدِ

يَلُـوْمُ وَمَا أَدْرِي عَلامَ يَلُوْمُنِـي / كَمَا لامَنِي فِي الحَيِّ قُرْطُ بْنُ مَعْبَدِ ..

إنها الإشادة غير المبررة بالأرض التي بالصدفة حل الشباب تمائم سكانها بها، وبعبادة القبيلة، ورؤية الدنيا من خلال عيون شيوخها وإن كانت عيونهم لا تري أبعد من مواطئ أقدامهم، وهذه إحدي القيم التي الآن صار في حكم المؤكد ضررها علي مسيرة المجتمعات نحو الرقيِّ، وانسحبت إلي زوايا الماضي التي يكترث البعض لزيارتها تحت ضغط الحنين فقط ..

لكن البيت يفرض سؤالاً تعد إجابته التابو الأخير الذي لا يتجاسر أحد علي مجرد الدوران حوله، حتي الإيروسية في الكتابة لم تعد الآن من المحظورات ..

ما هو الوطن؟

في الحقيقة، لم نعد الآن بحاجة إلي التنقيب في التراث عن تعريف للوطن، فلقد تم اجتراح هذا المفهوم وانتهي الأمر، لكني، سأؤجل الإجابة الخاصة بي عن هذا السؤال بعد قراءة سريعة في “تناذر اسكتلندا”!

الآن ..

لحسن الحظ، أصبح لدينا حدث كبير ينبه النظرية التي ولدت من رحم ثورة “25” يناير، الثورة المصرية الوحيدة، ضمرت، هذا صحيح، لكنني أسمح الآن لنفسي، وما حييت، بأن أكرز بانتصارها الحتمي في النهاية، “عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية .. كرامة انسانية”، كل هذا، أو، فليسقط الوطن!

“تناذر اسكتلندا”، يمكن أن نسميه أيضاً، “متلازمة أدنبرة”، أو، صفعة الوطن الذي يرتدي رجاله التنورة علي مؤخرات المتشدقين بحب الأوطان والقومية العربية والوحدة ما داموا هم السادة وغيرهم العبيد، ومتي حدث تبادل للمقاعد أصبح الإيمان بالوطن تعبيراً محمياً علي الحمقي وأصحاب الحد الأدني، وتصبح المنافي أوطاناً بديلة يتشدقون بحبها، وبكل بجاحة ..

“اسكتلندا” رحم لا ينضب للمفاجآت، ولقد فاجأت العالم قبل عدة أعوام بامرأة قروية في الـ “47” من عمرها، مثلها في بلادنا، لمستوي جمالها المنخفض، لا تصلح إلا هدفاً مشروعاً للنبذ والسخرية، مجرد أن وقفت أمام الميكروفون وغنت : “حلمت حلما”، أصيب العالم كله بالدهشة، إنها “سوزان بويل” طبعاً!

من الجدير بالذكر أن العالم كله مدين لباقة من العقول الاسكتلندية الممتازة، إليها يعود الفضل في كونه الآن أفضل، وهم ..

“جيمس وات” مخترع “المحرك البخاري المكثف”، كلمة السر في تفجير الثورة الصناعية ..

“ألكسندر جراهام بيل” مخترع “الهاتف”، أو كما كان رائجاً في الأوساط العلمية قبل أن يعترف “الكونجرس الأمريكي” رسمياً في عام “2002” أن الإيطالي “أنطونيو ميوتشي” هو المخترع الحقيقي للهاتف وذلك بعد مرور “113” عاماً علي وفاة الأخير ..

“روبرت واتسون وات” مخترع “الرادار” ..

السير “ألكسندر فلمنج”، مكتشف “البنسلين”، أحد النغمات المنعزلة التي تحولت إلي ما يشبه هزيم الرعد في عالم الطب ..

“جون لوجي بيرد” أول من اخترع تليفزيون عامل في العالم ..

أرجو ألا يزعجنا كل هذا الجمال، أو يورطنا في الشعور بالنقص ولا الخجل، إن لنا قصائدنا أيضاً، فإلينا وحدنا ، نحن العرب، يعود الفضل في أن يعرف العالم كله حكم بلع النخامة في رمضان، وفقه الضراط ..

لـ “اسكتلندا” أيضاً باقة من الأدباء والشعراء ذوي الأجنحة صحيحة التحليق في المطلق، استطاعوا أن يُنزلوا بتاريخ الأدب جمالاً مفرطاً وخيالاً بكراً، مثل، “جون باربر” و “وروبرت لويس ستيفنسون” و “هاري الأعمى” و “روبرت بيرنز” و السير “والتر سكوت”، كما تعد “موسيقى القِرَب” الذائعة الصيت هي المصدر الجذري للبني النظامية للموسيقى الأسكتلندية ..

وآخر مفاجآت ” اسكتلندا” هي، تناذر “اسكتلندا” ..

قبل عدة وردات مضت، وقف زعيم الحزب القومي الاسكتلندي “أليكس سالموند” ليدلي للعالم بهذا الاعتراف:

“قررت اسكتلندا بالأغلبية ألا تصبح دولة مستقلة في هذه المرحلة، أقبل حكم الناس هذا، و أدعو كل اسكتلندي إلى أن يحذو حذوي في قبول القرار الديمقراطي لشعب اسكتلندا” ..

ما أجمل هؤلاء الناس، لقد ارتبطوا علي ما يبدو برقي سيدوم إلي الأبد، فهذا “المحارب السلتي”، حتي وهو يمر من تحت أقواس هزيمته، ربما في أشدّ الأيام قتامة طوال عمره، لم ينس أن يعلي من شأن الديمقراطية كقيمة بيضاء لا يمكن أن يسير مجتمع نحو الأفضل بدون اعتمادها كقيمة مركزية ..

ولقد جاء الرد من “انجلترا” أكثر رقياً، لقد التقط “كاميرون” طرف الخيط الحريري الذي ألقاه ألد خصومه السياسيين قبل ساعات من ذلك الوقت، وما زال، “سالموند”، وقال على حسابه على “تويتر” :

“تحدثت للتو مع زعيم الحزب القومي الاسكتلندي “أليكس سالموند” وهنأته على الحملة الشرسة، أنا سعيد لأن الحزب القومي الاسكتلندي سينضم لمحادثات نقل السلطات”!

قال أيضاً من أمام مقر إقامته في “لندن” :

“إن مسألة استقلال اسكتلندا حسمت لجيل ..”

وأضاف :

“لا يمكن أن تكون هناك خلافات أو إعادة، استمعنا إلى الإرادة الراسخة للشعب الاسكتلندي ..”

إنه التعاطي مع الصراع السياسي ليس بمعناه العربيِّ في إقصاء الآخر، أو حتي سحقه، بكل الوسائل الممكنة، و إن كان هذا علي حساب الوطن، وإنما بمعني تناغم العمل بين كل أطراف الصراع علي بقاء العربة خلف الحصان بصرف النظر عن أي مكاسب شخصية، هذه العقيدة السياسية، لبياضها، تورطنا في عدم الاكتراث بتلك المناطق غير المضاءة في أسلوب اللعب بين الأطراف كافة، وفي عدم التنقيب حتي عن غير المكتوب في النص ..

قال “نيك كليج ” في نفس السياق :

“أنا سعيد للغاية أن الشعب الاسكتلندي اتخذ هذا القرار بالغ الأهمية للحفاظ على الأسرة التي تضم بلادنا للأجيال القادمة ..”

ثم تجاوبت علي الفور في كل هواء “أوروبا” أصداء مفتوحة علي مصراعيها للترحيب بنتيجة الاستفتاء الذي رفض فيه غالبية الاسكتلنديين الاستقلال عن “بريطانيا”، كان أجمل تلك الأصداء علي الإطلاق هو تعليق المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل”، ومن أين؟، من “برلين” التي الآن تقوم علي أطلال “برلين” التي أمطرت الطائرات الانجليزية قبل حوالي “70” عاماً في أوجاعها :

“لم أتدخل من قبل، ولذلك فإنني لن أقول الآن سوى أنني أحترم نتيجة الاستفتاء”!

ثم أضافت:

“أقول ذلك بابتسامة ..”

إنها لغة المصالح، حقي أن أحرس كراهيتك في أعماقي ما حييت، لكنني، أضع في ذاكرتي دائماً كخنجر في الذاكرة أنني سأموت ويبقي الوطن، فليس أقل من أترك وطناً لائقاً لمن سيأتون بعد موتي، وضيع النفس فقط، خسيس الجوهر فقط، هو من يقتل المؤجلين في سبيل الولاء للماضي، أو في سبيل مجد شخصي متوهم، فلا مجد والله، كل ما هنالك مجرد جرذ، بقة، رائحة العفن، وكما قال الشاعر :

وقد ينبت المرعي علي دمن الثري / وتبقي حزازات النفوس كما هيا ..

إذن ..

رفضت “إسكتلندا” الاستقلال عن “المملكة المتحدة” في استفتاء تاريخي بث الكثير من النذر السوداء حول مصير “بريطانيا” وهدد بانكماش قامتها العالمية، وتجاوز البريطانيون ذلك الكابوس، ربما لجيل قادم، كما قال “كاميرون”، الجميل في الأمر، أن الاختلاف في وجهات النظر حول استقلال “اسكتلندا” أو بقاءها ضمن دول التاج طال حتي أفراد الأسرة الواحدة، مع هذا، لم تكن هناك اتهامات متبادلة بالانتماء إلي الإنجليز، ولا تحريض من الإعلام الأسكتلندي للرجال علي قتل زوجاتهم، باعتبارهن خلايا نائمة، وقنابل موقوتة، لذلك، لقد آن لنا أن نعترف بأننا أقذر من يتنفس علي هذا الكوكب ..

وللحقيقة، الشعب الأسكتلندي واحد من الشعوب التي لم تتفق أبداً بطريقة مرضية حول قيمة واحدة أو ديانة رسمية أو لغة، حتي اللغة الإنجليزية، ينطقونها بعدة لهجات، ولعل هذا يوضح لماذا حاولت “سوزان بويل” طويلاً علي المسرح أن تتذكر مرادف كلمة “قرية”!

قصة “اسكتلندا” مع جارتها طويلة جداً، تسرد الدماء والزيجات الملكية معظم فصولها، لكن، يتخللها الحب الحذر أحياناً، وعلي غير المتوقع، كانت الحروب بين البلدين سجالاً..

عمر الوحدة بين البلدين “307” عاماً، وهي، كما قال “توم ديفاين”، وهو واحد من أكبر المؤرخين الاسكتلنديين :

إن الوحدة بين “إنجلترا” و “اسكتلندا” لم تكن زواجاً عن حب، لكنها كانت زواج عقل أملته مصلحة براجماتية” ..

وأضاف :

“من سنة “1750” إلى سنة “1980” كانت العلاقة مستقرة، اختفت الأسس التي بني عليها هذا الاستقرار أو قلت الى حد كبير” ..

من الصعب تحديد متي ظهرت “اسكتلندا”، لكن، يسود اعتقاد بأن أول استيطان لإسكتلندا حدث في عام “6000” قبل الميلاد، من قبل بعض صائدي الأسماك وبعض الصيادين المهاجرين الذين اهتدوا إليها بحرًا من جهة الجنوب، ومن المؤكد أن “اسكتلندا” استقبلت عدة موجات هجرة في العصر الحجري الحديث، هؤلاء الوافدون الجدد عملوا إلي جانب الصيد بالزراعة، وأحرزوا لوناً من ألوان الحضارة تشهد عليه بعض آثارهم من حليٍّ و فخار وعظام وأدوات زراعة ..

بنهاية هذا العصر الحجري الحديث، تعرضت سواحل “اسكتلندا” لموجة هجرة كبيرة قادمة من “ألمانيا”، وهؤلاء اشتهروا بدفن موتاهم في زجاجات كبيرة أشبه ما تكون بالكؤوس، ثم لحقت بتلك الموجة الألمانية موجة أخري قادمة من أواسط أوروبا، هؤلاء هم المعروفون ببناة الأبراج ..

عام “43 ” ميلادي، غزا الرومان “بريطانيا”، ولقد وجدوا في الطريق إلي هناك أقوامًا يسكنون أجزاءً من “اسكتلندا” فأخضعوهم لسلطانهم، وأطلقوا عليهم اسم “البكتز”، أو ” البكتيين”، وهؤلاء كانوا يدهنون أجسامهم بالألوان، ولعل من أصداء هذه العادة التي لا تزال حتي الآن حية، نظام ألوان التنانير لكل قطعة “تارتان” مسجلة في سجلات “السلطات الاسكتلندية للتارتانات”، وهي مؤسسة رسمية، تقوم بحفظ عينة من كل قطعة نسيج تحمل تتابع ألوان جديدة، وتمنح اسم، ويذكر في معلوماتها عدد خيوطها وترتيبها حسب اللون، ولكل عشيرة “تارتان” خاص بها، وهذه العادة من أهم العادات التي ينقلها المهاجرون الاسكتلنديين معهم أينما ذهبوا، في “كارولاينا الشمالية” في “الولايات المتحدة الأمريكية” مثلاً، أنشأ “ماثيو نيوسوم” متحفاً للـ”تارتان” الاسكتلندي!

ربما، كان الكثيرون منا، بحكم شهرتنا في النظر إلي الأمور بسطحية، لا تستسيغ عقولهم أن يرتدي رجلٌ تنورة، هؤلاء، ماذا ستكون ردود أفعالهم حين يعلمون أنه حسب تقاليد ارتداء “التنورة”، لا يرتدى الرجال أسفل منها ملابس داخلية!

من المؤكد أن “الرومان” بنوا جدار “هادريان” – لا تزال أطلاله باقية حتي اليوم – حوالي عام “120” ميلادي لحماية انفسهم من القبائل الكلدونية وترسيم الحدود الشمالية ..

في القرن الرابع، هاجر إلى “اسكتلندا” أقوام من “ايرلندا” ونشروا لغتهم المعروفة بالجيلية، وهي لغة المرتفعات والجزر الاسكتلندية، وبانسحاب الرومان من “بريطانيا” كان التاريخ يتهيأ ليكتب بحروف من مد وجزر قصة “اسكتلندا” و “انجلترا”..

لقد تمكن الأنجلو ـ سكسون في بداية القرن السابع الميلادي من احتلال المنطقة الواقعة حول العاصمة الحالية “أدنبرة”، كذلك، تمكن “الفايكنج” من احتلال أطرافها الشمالية خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، فوقعت فريسة للتأثيرات “الأنجلو ـ سكسونية”، و “الأنجلو ـ نورمندية” طوال “300” عام من ذلك الوقت، نجم عن تلك التأثيرات، التأثيرات النورمندية خاصة، تحول “اسكتلندا” إلى دولة إقطاعية ..

الملك “ادوارد الأول”، ملك “انجلترا”، الملقب بـ “مطرقة الاسكتلنديين”، عندما دُعِي إلى التحكيم في خلافة المملكة الاسكتلندية، كانت “اسكتلندا” علي موعد مع صدمة شاهقة، إذ طالب بسيادته علي أراضيها، واجتاحها فعلاً عام “1296” ميلادي، ليفتح، بتصرفه ذاك، الأفق علي مصراعيه لعدة حروب من أجل الاستقلال استمرت حتى “1357”، كان “وليام والاس”، الرجل الذي كان فيلم “القلب الشجاع”، أو “Brave heart” انعكاساً لسيرته، أحد أبطال هذه المرحلة من تاريخ بلاده، تلك الحروب، في النهاية، انتهت بانتصار ساحق للجيش الاسكتلندي بقيادة “روبرت بروس” – ابن “بروس”، ذلك الرجل الذي خان “وليام والاس” وتسبب في مقتله – على الانجليز في “بانكبورن” لتستعيد “اسكتلندا” كتعقيب علي هذا الانتصار استقلالها ..

ثم، في عام “1502” ميلادي، وقع “جيمس الرابع” ملك “اسكتلندا” و “هنري السابع” ملك “انجلترا” معاهدة سلام وضعت حداً للمعارك المتقطعة بين البلدين، وكعادة الملوك في ذلك الزمان، لتثبيت تلك المعاهدة زوج “هنري السابع”، أكبر بناته، “مارجريت”، لملك “اسكتلندا” ..

تطور المشهد عام “1603 ” عقب وفاة الملكة “اليزابيث الأولى” ليصبح ملك “اسكتلندا”، أقرب أقاربها، “جيمس السادس”، ملكاً لـ “انجلترا” باسم “جيمس الأول”، وكانت والدته “ماري” قد أعدمت قبل ذلك بستة عشر عاماً، فأعلن نفسه ملكاً لـ “بريطانيا العظمى” واستقر في “لندن” رغم أن البلدين بقيا مستقلين!

بعد قرن من ذلك الوقت، وعقب مفاوضات طويلة وقعت عام “1707” معاهدة الوحدة بين البلدين، لتولد “المملكة المتحدة” ..

ولقد قرر الاسكتلنديون ألا يكونوا مستقلين، لتظل قصة البلدين مفتوحة علي احتمالات مستقبلية كثيرة، مع ذلك، حتي يجد جديد، يظل “تناذر اسكتلندا” قائماً يلقي بظلاله الكبيرة علي مفهوم جديد للوطن..

قد يظن الذين لا يعلمون أن الأسكتلنديين رفضوا الانفصال لأنهم أحسن حظاً من حيث الترف تحت ظلال الوحدة، وهذا ظن خاطئ، فـ “اسكتلندا” إحدي الدول الطاردة، يهاجر الآلاف من سكانها سنويًا بسبب البطالة، وهذا نبه المملكة إلي ضرورة العمل علي الحد من هذه الظاهرة، مع ذلك، هم أحسن حظاً لأن الحرية تنهكهم، والديمقراطية تحاصرهم لدرجة الاختناق ..

سأعود إلى البيت وسأسأل في سياقه، لكن، قبل كل شئ، لابد أن نكون علي ثقة في أن أي نص كتب منذ قرون عند إعادة قراءته الآن يجب أن تتلون ايحاءاته بطريقة مختلفة عما كانت عليه في الوقت الذي كتب فيه، ذلك لأن النص، مهما كانت قوته، سوف يخضع حتماً لإسقاطات وعي المتلقي ومنظومة المعرفة في عصره التي ربما كانت بالنسبة إلي كاتب النص من الغيبيات!

لذلك، يجب أن يتخذ البيت الآن هذا الشكل :

بلادي، متي جارت عليَّ، رخيصةٌ / وأهلي، متي ضنوا عليَّ (يغوروا) ..

مرة أخري، ما هو الوطن؟

الوطن، ليس أرضاً تصادف أن ولد المرء بها، فالصدفة ليست وطناً ..

إنما، الوطن، يجب أن يكون العالم الفسيح، لكن العالم ليس طيباً إلي هذا الحد، لذلك، هكذا وطن لا يسكنه إلا رهبان “الزن”، وهي البوذية في نسختها اليابانية، فإنهم مكتشفوه، كما أن من أوائل املاءاتهم علي المبتدئين في الرهبنة، ويأتي مباشرة بعد الإملاء الأشهر عن تعريف ” بوذا”، وهو : ” السروة في حوش الدار”، هذا الإملاء هو :

“خلعتُ ثوبَ الأنا وأصبحتُ العالم الفسيح”، وهي عبارة مسرفة في الطوباوية لا يستطيع استيعابها إلا الذين ذابت أرواحهم حتي آخر قطرة في المطلق وبلغوا اليقظة الكاملة، بمعني، وطن رهبان “زن” في النهاية وطن ذهني بكل معني الكلمة، ثم، هو وطن لا يمكن أن يتحقق في الواقع بشكل فردي إنما من خلال خلفية جماعي، بدون هذه الخليفة يصبح الحديث عن هذا الوطن مجرد رغبة في الانتحار، تماماً كما فعل “الحلاج” و “محيي الدين بن عربي”..

وليس الوطن هو المرأة كما يقول الشعراء في طبعاً، وليس، بطبيعة الحال، حقيبة السفر فهذا وطن اللصوص والفاسدين وحدهم..

لكن، لا شك أن الحرية هي الوطن ثم يتضاءل كل شئ إلي مجرد تعليق أو إضافة، وبدون الحرية تامة الدوائر يتحول الوطن إلي مجرد نزل للإقامة، ويصبح سجناً كبيراً يجب ألا ينتمي المقيمون فيه إلا لمواطئ أقدامهم، ويصبح الخوف هو الرياضة القومية!

أنا الآن أعتقد أنه كان من الأفضل ألا أكتب كل هذا الكلام وأكتفي بكتابة بعض من قصيدة “يسقط الوطن” للشاعر الكبير “أحمد مطر”، فهي انعكاس مكثف لكل هذا الكلام الكثير ..

أبي الوطن / أمي الوطن / رائدنا حب الوطن / نموت كي يحيا الوطن ..

يا سيدي انفلقت حتى لم يعد / للفلق في رأسي وطن / ولم يعد لدى الوطن / من وطن يؤويه في هذا الوطن /

أي وطن؟

الوطن المنفي.. أم الوطن؟!

أم الرهين الممتهن؟

أم سجننا المسجون خارج الزمن ؟!

نموت كي يحيا الوطن

كيف يموت ميت ؟

وكيف يحيا من أندفن ؟!

نموت كي يحيا الوطن

كلا .. سلمت للوطن !

خذه .. وأعطني به / صوتاً أسميه الوطن / ثقباً بلا شمع أسميه الوطن / قطرة أحساس أسميها الوطن / كسرة تفكير بلا خوف أسميها الوطن /

يا سيدي خذه بلا شيء /

فقط /

خلصني من هذا الوطن ..

نموت كي يحيا الوطن /

يحيا لمن ؟

لابن زنى

يهتكه .. ثم يقاضيه الثمن ؟!

لمن؟

لإثنين وعشرين وباء مزمناً؟

لمن؟

لإثنين وعشرين لقيطاً

يتهمون الله بالكفر وإشعال الفتن؟

ويختمون بيته بالشمع

حتى يرعوي عن غيه

ويطلب الغفران من عند الوثن؟!

تف على هذا الوطن!

وألف تف مرة أخرى!

على هذا الوطن ..

من بعدنا يبقى التراب والعفن

نحن الوطن !

من بعدنا تبقى الدواب والدمن

نحن الوطن !

إن لم يكن بنا كريماً آمناً

ولم يكن محترماً

ولم يكن حُراً

فلا عشنا..

ولا عاش الوطن!

شارك الخبر:

شارك برأيك

تعليقان

  1. أول ما يجذبك ل إسكتلندا هي التنانير التي يلبسها الرجال 🙂
    بالإضافة لتلك الآلة الموسيقية التي يشتهرون بالعزف عليها.. !
    أعجب جدا بتلك الموسيقى التي يعزفونها..!
    بها شوية شبه و إن كان قليلا مع آلة المزود التونسية !!

    1. ها ها ها ، مين قال كده مريم ؟

      أشاركك الإعجاب بموسيقي القٍرَب

      وبها شبة كبير من موسيقي الغجر ، غجر رومانيا خاصة

      شكرا مريم ، تحياتي

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *