من صغرى كنت أتعجب ، وبسأل نفسى كيف يذهب الفلاح إلى صندوق الانتخابات ليختار (العمدة الذى يسرقه)؟، كما كان يختار جده (الباشا الذى يجلده)؟..
لم أفهم حينها بأن الموضوع كبير ، وأن الفلاح نايم معناطيسيا ضمن قطيع كبير تم منحه حقوق شكلية ليستخدمها الأسياد لصالحهم (أبصم هنا يا عوضين)..
لما كبرت وانخرطت في العمل السياسى ، اكتشفت أن معظم التنظيمات التى تعرفت عليها فى فترة وجيزة تعمل بنفس الآلية .. آلية (لم الأنفار) وحشر المفاهيم في دماغهم بنفس طريقة التنويم المغناطيسى ، ولأننى دخلت السياسة من باب الثقافة ، وليس من باب البحث عن فرصة للسلطة أو الشهرة ، فقد كان الوعى هو دليلى ومرشدى ، فلم أعتمد أبدا أسلوب التجنيد لاستهداف زباين جدد ، ولم أناقش أحد أبدا بهدف إقناعه بدخول تنظيم ، أو مشاركة فى فعالية ، لكننى كنت أعمل وأشارك وأناقش بهدف نشر الوعى ، وتطوير حاسة الاختيار السليم ، وكنت اقرأ كثيرا كتبا للباحث الأمريكى الشهير والتر ليبمان ، التى لمست دور وسائل الإعلام فى غسيل المخ الجمعى وغرس قيم وقناعات معينة بهدف التحكم وتوجيه الجموع …
فى ذلك الوقت سعى تلاميذ مدرسة فرويد لتطوير التحليل النفسى لاستخدامه على العامة ، وتوصلوا إلى استخدام القلق والفزع والإرهاب فى تدين المواطن وتحويله إلى طفل سياسى يمكن التلاعب به وتعطيل عقله وخبراته والضحك عليه ، ثم تطورت الأمور، وتم التوصل إلى تفكيك مفاهيم المجتمع وإعادة تشكيلها تحت ضغط محسوب ، ورسائل برمجة واسعة يلعب فيها الإعلام الدور الأبرز ، في بيئة من الخوف والظلام الذى يعطل أى تفكير منتظم أو رؤية سليمة …
وأتذكر صورة جميلة وصف فيها ليبمان (الشعب) بأنه مثل تلميذ بليد يجلس في آخر الصف يغلبه النعاس والملل ، ولا يهتم بالدرس، لكنه أحيانا يصحو على صوت عالى أو سؤال من المدرس ، فيقول أى كلام ، ليوهم الآخرين أنه متابع ومشارك وفاهم ، وهذا ما أراه اليوم من جمهورنا الذى صورناه وهو نائم ، وشكونا من شخيره ، وقدمنا مئات الدراسات عن أسباب انصرافه عن المشاركة السياسية ، ثم استيقظ فجأة على الصوت العالى لثورة 25 يناير ، ليوهمنا أنه مشارك ، وبدا يفتى في الدستور، والديمقراطية والثورة وتفاصيل الحكم …
وطبعا وقتها كنت أرفض بشدة مثال ليبمان ، الذى يقصد أن يقلل من مقدرة الجمهور على فهم قضايا المجتمع وبالتالى إدارتها ، ويرى أن ذلك هو دور النخب المؤهلة لذلك ، لأن الجمهور مجرد شبح ، ومادة مالئة تعبئها النخبة المسيطرة بما تريد من لون وطعم ، ومع ذلك لا يمكن الاستغناء عنه لتبرير (المصلحة)، سواء كانت (المصلحة) هى السياسة وشؤون الحكم ، أو كانت هى الاقتصاد لاحتكار الأعمال وجمع الأموال ، أو الجمع بينهما ، ففى الحالتين من المهم أن يجعلوا الجمهور يغنى بكل صدق وحماس (تسلم الأيادى) لأن ليبمان يرى أن نجاح النخبة يكمن في استغلال حلم المواطن البدين فى أن يكون راقص محترف ، لذا تسلط عليه إعلام (اراب جت تالنت) وتفتتح له مدرسة للرقص وتغرقه فى الوهم بدلا من أن توقظه للفهم .. ليستمر اللهو .
الدولة تحارب الفساد !، ولميس، واحمد ، وعوضين ، أبو الفساد نفسه .
وليستمر اللهو !

شارك الخبر:

شارك برأيك

تعليق واحد

  1. وااو جميل جداً , لم تقُل غير الحق , تحياتي لك ولِقلمك المحترم الذي يحترم عقول من يقرأ لك .

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *