وجدت قلقا حقيقيا في دوائر صنع السياسة في عدد من العواصم العربية خاصة والإقليمية عامة. اتجه ظني في بداية الأمر إلى التوتر الناجم عن عدم استقرار الأوضاع الداخلية إلى أن اتضح لي أن أكثر القلق ناتج عن حالة “عدم التأكد” من نوايا الرئيس باراك أوباما. بمعنى آخر، هناك قدر كبير من الغموض المصحوب بشكوك عديدة لدى كثير من قادة المنطقة يحيط بالعملية الجارية حاليا في الولايات المتحدة  تحت عنوان ” بناء صرح جديد للسياسة الخارجية الأمريكية والأمن القومي الأمريكي.”
***
يحدث في أوقات الأزمات السياسية المعقدة أن تختفي معلومات فيصعب الفهم وتتعدد الرؤى. تختفي المعلومات في أوقات الأزمات بسبب سرعة تطور الأحداث، ولكن أيضا بسبب انتقال معظم القرارات الهامة إلى أيدي عدد قليل جدا من المسئولين وأحيانا إلى أجهزة بعينها.   تختفى أيضا لأن الدول وهى تمر بمرحلة تعديل سياساتها، تحرص على المبالغة في إخفاء المعلومات ومناهضة الشفافية.
أستطيع بقدر كبير من الثقة أن أتفق مع من سبقني وقرر أن قطاع الأمن القومي والسياسة الخارجية الأمريكية يمر بمرحلة شديدة الحساسية والتعقيد . دليلي هو هذه اللافتات العديدة عن تغييرات في الأفكار الأساسية والأساليب. لا اعتقد أن عهداً آخر تعددت لافتاته عن سياساته الخارجية والدفاعية كما تعددت في عهد أوباما. أذكر لعهد الرئيس رونالد ريجان لافتات قليلة العدد، أغلبها كان يركز على مواجهات الحرب الباردة وتشجيع الدول على تحرير أسواقها واقتصاداتها. وأذكر للرئيس بوش الصغير لافتته الشهيرة عن محور الشر وضرورات محاربته كما أذكر له لافتتي فرض الديمقراطية على شعوب العالم بقوة السلاح والحرب العالمية ضد الإرهاب. أما أوباما فلافتاته عديدة ومتغيرة، أبرزها وقف الحرب العالمية ضد الإرهاب لسنوات ثم اشعالها من جديد، الانفتاح على عالم الإسلام السياسي وتشجيع مناصريه ثم التوقف لتقييم التجربة، ولافتة التحول نحو الشرق ثم التباطؤ قليلا لمتابعة أمور استجدت في الشرق الأوسط.  تابعنا أيضا لافتة تجاهل الحلفاء التقليديين في أوروبا تعبيرا عن تبرم وتململ ثم العودة إليهم بتردد عندما بدأت معركة أوكرانيا. بل أن الشقيقة سوريا حظيت وحدها في أزمة واحدة بلافتات كثيرة، بدأت بلافتة إسقاط الأسد وانتهت بالتعامل معه مرورا بقرار حشد قوات أمريكية والتهديد بحرب والعودة سريعا عن هذا القرار عندما امتنعت الحليفة بريطانيا. شاهدنا أيضا على أيدي إدارة أوباما لافتات ضد إيران ولافتات مع إيران، ولافتات  مع النظام الجديد في مصر ولافتات ضده. وإن نسينا يوما فسيكون صعبا أن ننسى لافتة الحل المعجزة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، جهد كبير ورحلات مكلفة مالا ووقتا وتنازلات على حساب مكانة الرئيس ووزير خارجيته ورئيسة مستشاريه والنتيجة أن مر شهر إبريل ولا حل.
الافتات عديدة ومتناقضة، ولكن يجب الاعتراف بأن بين هذه اللافتات جميعا يمر خط تكاد تراه العين المجردة، خط مستقر ومستمر ينبئ عن نية راسخة لدى أوباما تسعى إلى تقليص الاعتماد على القوة الصلبة، وبخاصة العسكرية، لصالح الاعتماد على القوة الناعمة ، وبخاصة الدبلوماسية والعلاقات الاقتصادية، لتحقيق الأهداف الأمريكية، وبخاصة الأهداف المتعلقة بالأمن القومي وحماية المصالح الحقوقية.
لم يتصور أحد أن تكون بسيطة وميسرة عملية الانتقال بسياسات الأمن القومي من مرحلة استمرت طويلا  إلى مرحلة أخرى بظروف وتوازنات قوة مختلفة تماما. لم تكن بسيطة أو ميسرة في عهد الرئيس وهو يجرب العودة إلى الانعزال، ولا في عهد الرئيس روزفلت وهو يقرر الخروج بالولايات المتحدة من سياسات الانعزال إلى سياسات التدخل والانخراط والحشد والتعبئة. ولم تكن بسيطة أو ميسرة عندما قرر رؤساء الحرب وما بعد الحرب العالمية الثانية الحلول محل بريطانيا وفرنسا في قيادة الهيمنة الإمبريالية الغربية والتصدي للاتحاد السوفياتي. وأظن أنها لم تكن بسيطة أو ميسرة المرحلة التي بدأت بإعلان أوباما عن نيته خفض الانفاق العسكري وإعادة الاهتمام بالبنية التحتية الأمريكية وتخفيض أعباء مسئوليات القيادة.
يهمني في هذا الصدد ما اعتقد أنه يتصل بنية أوباما في تحرير الولايات المتحدة من روابط وقيود تحالفاتها التقليدية، إذ لا يخفى أن بعض هذه التحالفات صار عبئا على أمريكا، وسيكون عبئا أثقل إذا استقرت نيتها على تبديل أولوياتها القومية. المثال الأبرز أمامنا هو النمط التقليدي للتحالف مع دول غرب أوروبا. هذا النمط لم يعد صالحا أو فاعلا في ظروف تغيرت فيها إمكانات الدولة القائد للحلف. مرة بعد أخرى تثبت أوروبا أنها غير قادرة على تحمل قدرا أكبر من المسئولية فتسهم في تخفيض  أعباء الولايات المتحدة، ولا شك أن الأمر تحول الى معضلة والمعضلة تزداد تعقيدا. إذ يدرك أوباما خطورة انفلات سباق تسلح في أوروبا، وفى الوقت نفسه يعرف، حق المعرفة، أن أمريكا وحدها لن تتحمل طويلا مسئولية الدفاع عن أوروبا.
أظن أن أوباما أدرك أيضا أن حلفاء أمريكا التقليديين في الشرق الأوسط خذلوها، أو على الأقل خيبوا أملها. خذلوها عندما تركوا الشرق الأوسط ينزلق نحو أزمة لعلها الأخطر في تاريخ المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى . ولاشك أن أحدا لن يعفى واشنطن من مسئولية هذا الانزلاق. فقد اختارت واشنطن أن تشيد نظاما لتوازن القوى في الشرق الأوسط يعتمد من ناحية قاعدة التفوق المطلق لإسرائيل على ما عداها من دول الشرق الأوسط منفردة أو مجتمعة. الآن، لم يعد ممكنا الاستمرار في إدارة صراعات الشرق الأوسط والتخطيط لمستقبله في ظل الاعتقاد بضرورة وجود هذا التفوق الإسرائيلي المطلق. إذ دخلت ساحات الصراع شرق الأوسطي كل من إيران وتركيا ودخلها كذلك لاعبون من خارج النظام الرسمي الإقليمي والدولي. هؤلاء اللاعبون الجدد يشاركون، رغم أنف دول الإقليم في بناء نظام إقليمي جديد، كل بطريقته وكل بطائفته أو مذهبه، وأغلبهم ليسوا من حلفاء أمريكا التقليديين. لا يحتاج الوضع في الشرق الأوسط، بحالته الراهنة، إلى جهد كثير لإقناع صانعي السياسة في المنطقة وأوروبا والصين بأن نمط توازن القوى الذى صاغته أمريكا وحافظت عليه لمدة ستين عاما أو ما يزيد، لم يعد صالحا لتحقيق استقرار في الشرق الأوسط، أو لإدارة نظام أمن إقليمي.
***
من ناحية أخرى، لعل واشنطن تكون قد اكتشفت أيضا أن الشرق الأوسط في سنواته الأخيرة مندفع بطاقة كبيرة للانحراف في اتجاه انفجار مذهبي. كثيرون يعتقدون أن أمريكا مسئولة عن هذا الانحراف ويحملون بوش وموظفيه العسكريين ومساعديه من المحافظين الجدد مسئولية ما يحدث في العراق الآن وربما المنطقة بأسرها، أنا شخصيا اعتقد أنهم مسئولون عن “تسريع” الانحراف وشحذ حوافه وليس عن انطلاقته.
ورثت واشنطن عن بريطانيا عقيدة الاعتماد على الأغلبية السنية في الشرق الأوسط لضمان الاستقرار السياسي والإقليمي. وبالفعل كان الاعتماد على السنة شبه مطلق وكذلك كان دعمها لهم ليحتفظوا بميزان القوة الإقليمي وداخل كل دولة لصالحهم. الآن، وبعد مقدمات لم تكن خافية، اكتشفت واشنطن أن توازن القوى في الشرق الأوسط على هذا النحو يكشف عن خلل رهيب. في أعقاب هذا الاكتشاف راحت السياسة الأمريكية تسعى  لتغيير بعض الثوابت، والتدخل لتعديل توازن القوى بين السنة والشيعة في الشرط الأوسط، وانشغلت جهات عديدة وعقول وفيرة  بالبحث عن نظام جديد لأمن الشرق الأوسط يقوم  على “توازن جديد للقوى الطائفية”. لذلك لا أستبعد أن تحدث عملية فرز شبيهة بعمليات الفرز التي جرت بشكل أو بآخر في ثورات الربيع العربي، وبعضها مستمر الآن مدفوعا بقوى الإسلام المسلح.
لست متأكدا تماما إن كانت أحداث 9/11 وبخاصة تفجير برجي التجارة في نيويورك ومبنى البنتاجون في واشنطن، أم ثورات الربيع  العربي هي التي كشفت عن مدى الاختلال في ميزان القوى السياسية  في الدول العربية. واشنطن لم ترث فقط أولوية طائفة السنة، بل ورثت أيضا أولوية النخب العربية المتعلمة تعليما غربيا والمدربة على احتكار النفوذ والحكم، على حساب النخب “الإسلامية” أو المدربة تدريبا دينيا.  الآن أصبحنا نعرف كيف تدخلت أمريكا وحلفاء لها في مسيرة جميع ثورات الربيع لتزيد من ثقل النخب الدينية على حساب النخب والمؤسسات المدربة تدريبا غربيا أو عصريا، ولم يعد سرا أنها شجعت النخب الدينية التي حصلت على قدر من التعليم في دول الغرب.
نقل كل من دافيد ريمينيك في مجلة نيويوركر في يناير 2013 وجيفري جولدبرج في موقع بلومبرج نيوز في مارس 2014 عن الرئيس أوباما قوله أن هدفه من إقامة وضع متوازن بين الحلفاء التقليديين كالسعودية وإسرائيل من ناحية وإيران من ناحية أخرى هو تشييد نظام أمن إقليمي يضمن مصالح أمريكا ويخفف من خطورة الصراع المذهبي. على ضوء هذه النية، اذهب مع ما ذهب إليه معلقون آخرون إلى الاعتقاد بأن الصراع على سوريا قد يكون جزءا من هذه الصورة الأشمل. لقد اعتقد حلفاء أمريكا التقليديون في الشرق الأوسط أن أوباما اخطأ حين رفض إسقاط بشار الأسد، لأنه برفضه اسقاطه أضاع فرصة عظيمة لفرض الانكسار على إيران. المخطئ هنا في ظني، ليس أوباما بل أصدقاء أمريكا الذين فهموا خطأ أن أوباما يسعى لانكسار إيران، هؤلاء لم يدركوا بعد أن أمريكا تسعى منذ فترة غير قصيرة لبناء توازن جديد للقوى المذهبية في الشرق الأوسط ، ولا يفيدها في هذا المشروع أن تكون إيران منكسرة.
***
هل حان وقت الاعتراف بأننا في الشرق الأوسط، وربما لأول مرة، نعرف معرفة أفضل حقيقة توازنات القوة في المنطقة؟ لقد اشتركت عوامل متعددة في الآونة الأخيرة في دفعنا في اتجاه هذا الفهم الأفضل لنظام توازن القوى في الشرق الأوسط، منها أن أمريكا أبدت علنيا الرغبة في الانسحاب من الشرق الأوسط، ومنها أنها كشفت عن حالة ضعف نسبي حين تعاملت بشكل غير مألوف مع روسيا ومع الصين ومع قوى الإرهاب المسلح، ومنها أن أمريكا بدت حريصة كل الحرص على أن تصل مباحثاتها مع إيران إلى نجاح، رافضة الضغوط السعودية والإسرائيلية. منها أيضا أن إسرائيل تبدو هذه الأيام في موقف لا تحسد عليه في المجتمع الدولي، ويبدو تأثيرها على صانع القرار الأمريكي أضعف من أي وقت مضى.  من هذه العوامل أيضا أن أمريكا، أو على الأقل إدارة أوباما، ظهرت غير واثقة من أفضلية الاستمرار في المحافظة على سايكس بيكو  أساسا لخريطة المنطقة في المستقبل كما كانت في الماضي ، مع تعديلات طفيفة هنا وهناك، أو الخضوع لضغوط التقسيم هنا والتجميع هناك. ولا شك أن تصريح نائب الرئيس جو بايدين مشجعا التقسيم أضاف سببا جديدا إلى أسباب القلق السائد في مواقع صنع السياسة في العواصم العربية.
كثيرة هي العوامل التي دفعتنا للسعي نحو فهم أفضل لحال توازن القوى في الشرق الأوسط. يتصدرها من وجهة نظري عاملان قيمتهما المعنوية أعلت من شأنهما، أولهما أن الأسد مازال في موقعه، وثانيهما أن العراق على الطريق لإقامة توازن جديد للقوى المذهبية في داخله ، إن بالتقسيم أو بتعاقدات جديدة.

شارك الخبر:

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *