هذا المقال بقلم جميل مطر وهو كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي، ومدير المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل.
في قمة الأمريكيتين التي انعقدت في قرطاجنة بكولومبيا في عام 2012، صوتت جميع دول أمريكا اللاتينية والكاريبية باستثناء الولايات المتحدة لصالح حضور كوبا القمة التالية.  وقبل أسابيع قليلة أعلنت بنما الدولة المضيفة للقمة القادمة أنها بدأت التحضيرات لعقد هذه القمة في أبريل 2015. وبعد صدور الإعلان بأيام صرح نورييجا رئيس نيكاراجوا أنه لن يشارك في قمة بنما إذا لم تشارك فيها كوبا. وفي تصريح مثير خرج خوان مانويل سانتوس رئيس دولة كولومبيا عن عادته إدلاء تصريحات هادئة، قائلا ” لا كوبا.. لا قمة.” على ضوء هذه المواقف  الجادة والحازمة وافقت أمريكا على حضور كوبا لأول مرة أعمال قمة الدول الأمريكية.
***
كان 17 ديسمبر يوما استثنائيا في تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية. ففي ذلك اليوم عقد الرئيس باراك أوباما مؤتمرا صحفيا ليعلن بنص كلماته فشل السياسة الأمريكية المتعلقة بكوبا.  كان يقصد فشل سياسات الحصار الاقتصادي والدبلوماسي، وسياسات عزل كوبا عن محيطها الإقليمي.
قرار أوباما ليس قرارا عاديا في السياسة الخارجية الأمريكية . وصفه أحد المعلقين بأنه أقرب شبها بقرار الرئيس رتشارد نيكسون الانفتاح على الصين الشعبية وإقامة علاقات كاملة معها. لم يحدث في الحالتين أن قدم الطرف الآخر، أي الصين وكوبا، تنازلات في مواقفه أو سياساته. كان أمل المسئولين الأمريكيين هو أن يدفع الحصار الدولتين إلى تغيير عقيدتهما السياسية والانصياع التام للإرادة والهيمنة ألأمريكية.  بالنسبة لكوبا كان هناك قصد آخر وهو أن تكون كوبا درسا ماثلا  لكل دول أمريكا اللاتينية ودول البحر الكاريبي.
***
لا تشغلني كثيرا التطورات الإقليمية التي اجتمعت لتفرض على الرئيس أوباما تغيير سياسته  الخارجية في شأن كوبا. يشغلني أكثر السياق الدولي الذي جرى فيه اتخاذ هذا القرار . القرار في أبسط صوره يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية صارت أكثر استعدادا من أي وقت مضى لإدخال تغييرات مهمة على سياساتها الخارجية. يحدث هذا في وقت تشهد فيه دول كثيرة في العالم  تغييرات مهمة في توجهاتها الخارجية.
كنا قبل أيام قليلة نناقش أعمال المؤتمر الثاني للسياسة الخارجية الذي عقده الحزب الشيوعي الصيني. ناقشنا أيضا احتمالات التغيير والبدائل المطروحة على المسئولين عن صنع السياسة الخارجية الصينية في السنوات القليلة المقبلة.  كنت ومازلت عند رأيي بضرورة أن تولي المؤسسات البحثية والأكاديمية في مصر، ناهيك عن وزارات الخارجية وأجهزة الاستخبارات والتحليل السياسي، اهتماما خاصا للتطورات التي تحدث في السياسة الخارجية للصين . أدعوها  كذلك للاهتمام  ببدائل رد الفعل لدى الأطراف الدولية الأخرى . ليس سرا أن كثيرين صاروا يتوقعون تغييرات قد يؤدي بعضها إلى  تحولات جذرية في النظام الدولي عموما  وتحولات عميقة  في وظائف وأساليب عمل المؤسسات الدولية المختلفة، وفي مقدمتها منظمة الأمم المتحدة.
لم تكن الصين الدولة الوحيدة التي قررت إدخال تغييرات على سياساتها الخارجية. نعرف أن الولايات المتحدة سبقت الصين في هذا المجال.  بل أن إدارة أوباما تستحق أن يسجل لصالحها، أو ربما ضد صالحها، إنه العهد الذى حمل على عاتقه مسئولية إعداد أمريكا لمرحلة ما بعد “هيمنة الغرب.” يصعب على متخصص في دراسة العلاقات بين الدول إنكار حجم وعمق التغيرات في السياسة الخارجية الأمريكية خلال السنوات الأخيرة، ابتداء من تخفيض المسئوليات الخارجية الكبرى وتقليل الإنفاق العسكري والتراوح  الفاضح بين قضايا التزام الديمقراطية وحقوق الإنسان من ناحية وقضايا الأمن والاستقرار من ناحية أخرى، هذا بالإضافة إلى الانسحابات المتدرجة ولكن الواسعة من منطقة الشرق الأوسط، وانتهاء بجهود تصعيد إيران دولة إقليمية يعتد بها في صنع توازن أمنى إقليمي جديد.
***
تابعنا صعود مودى إلى سدة الحكم في نيودلهي .  أعترف أنني كنت أحد الناس  الذين لم يتصوروا أن الهند بمؤسساتها العريقة، وبخاصة في السياسة الخارجية، سوف تقبل ببساطة، أن يقوم مودي وتحالفاته الدينية  بإدخال  تغييرات جوهرية في هذه السياسة.  تشير مؤشرات عديدة إلى أن مودى حقق في شهور قليلة من التغيير في  السياسة الخارجية الهندية ما لم تجرؤ على تحقيقه حكومات  حزب المؤتمر  التي حكمت الهند على امتداد عقود.  جرى هذا التغيير في سياق ما صار يعرف  بالقرن الأسيوي. أصبحت أغلب دول آسيا، ومعها استراليا،  تفكر بعقل مختلف وبرؤى مستنيرة وشديدة الواقعية إلى وضع إقليمي ودولي سريع التغيير. كثيرة هي التغييرات في سياسات دول آسيا وبخاصة الهند وكثير من هذه السياسات نضج عبر السنين في غرف البحث والعصف الفكري ، وأنا هنا لا أتجاوز الحقيقة عندما أقرر أنه بفضل هذا النشاط المتميز  لعقول متخصصة في صنع السياسة الخارجية أن  الهند  استطاعت في عهد الرئيس مودى أن تتصرف “كدولة كبرى محتملة”، وأن العالم الخارجي صار يعترف لها بهذه الصفة.
***
هذا عن السياسة الخارجية للصين وأمريكا والهند وكوبا، والقائمة تطول. إذ تتغير مثلا السياسة الخارجية الإيرانية بأسرع كثيرا مما تصور الأمريكيون في بداية مفاوضاتهم أنه سيحدث. وتتغير السياسة الخارجية التركية بإيقاع غير منتظم أساء إلى مكانتها الدولية، أكثر مما أساء إلى مكانتها الإقليمية، تلك المكانة التي خطط لها الحزب الإسلامي الحاكم لتكون أساس شعار “صفر ــ مشاكل”. ولا شك عندي في أن أطرافا مهمة في الحزب الحاكم تضغط من أجل سياسة خارجية واقعية، وأن التغيير قادم.
***
كذلك فإن أحدا لا يستطيع أن يتجاهل التغيير الملموس الذى شمل أوجه العديد من دبلوماسيات دول مجلس التعاون الخليجي. لا أريد أن أبالغ بالقول بأن ثورات الربيع  كانت دافعا  للتغيير في كثير من منظومات السياسة الخارجية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ولكن أعتقد أنها مازالت تشكل الركن الأساسي وراء  الجهود المبذولة حاليا لرسم مستقبلات للعمل السياسي الإقليمي والدولي، وأصر على أنها تقف وراء الحركة المحمومة في مجال تنظيم علاقات مصر الدولية.
***
لا أستطيع مجرد تصور أن يستمر العمل بأساليب وأدوات السياسة الخارجية المصرية في عهد مبارك.  لا أستطيع أن أحلم بالعودة إلى أهداف وأساليب عهود انقضت وأنسى أن السياسة المصرية  الراهنة محاطة، وأيضا مخترقة، ببؤر ثورية،  وبتغيرات جوهرية في مكانة دول في الجوار وفي توازنا ت القوة داخل النظام العربي. لا أستطيع  أن أمكث ساكنا بينما ينهض  فريق  آسيوي على درجة مثلى من الكفاءة والحداثة والعلم  وعلى رأس أهدافه  إزاحة الغرب عن كاهل الشعوب وإعلان نهاية تاريخه العتيد في السيطرة والهيمنة .
من هنا، يزداد اقتناعي بأنه تنتظر مصر ثورة في منظومة السياسة الخارجية المصرية.  تنتظرها ثورة أرادت أو رفضت أجهزتها التقليدية  ومؤسساتها المتشبثة بعهود واساليب انتهت جميع آجالها الافتراضية. لا تكفي المعالجة الدقيقة والتغييرات الشكلية والجهود الصادقة إذا لم يوجد رابط يربطها ورؤية تلم أطرافها. ستبقى السياسة الخارجية المصرية، إن استمر الوضع على ما هو عليه، مجرد حاصل جمع جهود طيبة،  لعلاج أوضاع متفرقة أو مواجهة حالات بعينها. هذه الجهود يستنزف أغلبها في خلافات بين أجهزة ومؤسسات وتدخلات مدمرة أحيانا  من جانب عناصر ومصالح وولاءات في وسائط الإعلام.
سيبقى الجهد مبعثرا ما لم تتشكل منظومة حديثة  للسياسة الخارجية، نواتها رؤية ناضجة وواقعية لمصر والإقليم والعالم، وتديرها خبرات دبلوماسية مدربة تدريبا عاليا كما في الصين والهند والبرازيل وكفاءات استخباراتية راقية المستوى وقيادات مجتمع مدني متطور ذهنيا وسياسيا، ومنفتح على العالم الخارجي.
***
سياسة مصر الخارجية في حاجة ماسة إلى مؤتمر عام يعلو فيه صوت الخبرة والنقد على أصوات الدعم والتأييد، صادقة كانت أم منافقة.  يحتاج المؤتمر إلى تحضير جيد، مستبعدا من المشاركة فيه عناصر التهويل والتطرف الفكري وأصحاب الأيدي المرتعشة بحكم السن أو الخوف من الجهر بالرأي، ومرحبا بكل رأي من  متخصص، وحريصا على أن تنتهى أعماله   بترسيم واضح للحدود بين مؤسسات الدولة، لمنع تكرار حالات  “الموت السريري”   الذى دخلت فيه بعض أجهزة الدولة وسياساتها  في عصر مبارك. هذه المأساة سببها التدخلات غير الصحية من جانب أفراد ومؤسسات لا علاقة مباشرة لهم أو  لها بالسياسة الدولية .
***
فليكن المؤتمر المصري الأول للسياسة الخارجية إنجازا آخر من إنجازات ثورة يناير، تنتقل به مصر  من عصر إلى عصر، وتنضم به، كخطوة أولى، إلى قائمة القوى الاقليمية  المحتملة.

شارك الخبر:

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *