الإقصاء عكس كلمة التقريب ، وفي اللغة يقصي الشئ أي يبعده ،وأقصى الرجل عقله أي شتته وذهب به بعيداً ، والقاصي بعكس الداني ، قال تعالى : فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) مريم ،أي في مكان بعيد لم يغب عن ناظر القدس، وقال أيضا : وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى (20) القصص ، أي من طرف المدينة ، وسمي المسجد الأقصى بهذا الأسم لأن الله سبحانه وتعالى أقصاه عن أيدي اليهود والنصارى، فلم يتخذوه بيتًا ولا مكانًا لعبادتهم، مع أنهم كانوا حوله، وبالقرب منه ، وليس المعنى السائد على أن المسجد الأقصى سمي بالأقصى؛ لبعده عن المسجد الحرام، وفي كلا الحالتين نستفيد إن معنى الإقصاء هو الأبعاد ، والإقصاء يحمل عدة أوجه ، منها تجاهل الشئ أو أبعاده أو القضاء عليه كلياً ، وعدم الاعتراف به وبوجوده ، وعادة يتصف المقصّي بصفة الأنانية والنرجسية وحب الذات ، والإقصاء سلوك غير مرغوب ومنبوذ اجتماعيا ، والحيوانات الاجتماعية التنظيم لا تعرف لغة الإقصاء ، كمجتمع القردة والطيور ، حتى أصغر المخلوقات كالنحل والنمل ، وسنتحدث قليلاً عن هذه المجتمعات التي لا تتمتع بخاصية العقل البشري ، والتي لا تحاسب عما تفعل ، وسنركز على أهمية الاعتراف بالآخرين في استمرارية حياتهم الاجتماعية والسياسية .فمجتمع القردة الكبيرة مثلا ، كإنسان الغاب ( الغوريلا ) يحتوي عل عدة أسر ، كل أسرة تتكون من أب وأم وأثنين أو أقل من الأبناء ، ويربط كل الأسر قائد واحد ووزير ينوب عنه في حالة مرضه أو موته . الغوريلا القائد لا يقصي الآخرين في اتخاذ قراراته ،كتحديد مكان وقوف القافلة ، حيث من عادة مجتمع الغوريلا الترحال البطيء في الغابة بطريقة دائرية للأكل والتكاثر ، لكي تعطى فرصة النمو للأشجار السابقة وللعودة لها مرة أخرى ، وهنا يأتي دور الرئيس أو القائد في تحديد المكان بمشاورة الآخرين وخاصة الإناث منهم ،لأنهم أعرف باحتياجات أبنائهن، وأيضا مشاورة القبائل الأخرى التي تعسكر في نفس المكان .
عند هجرة الطيور الموسمية يقسم السرب إلى عدة دفعات متعاقبة، كل دفعة لها رئيس في المقدمة ، وكل مجموعة تعطي المجموعة التالية فرصة المرور أمامها أو بجانبها أو خلافها ، وتكّون كل دفعة الشكل ثمانية في طيرانها في الجو كرأس السهم الانسيابي ، والسبب هو تقليل ارتداد الهواء الضارب للجناحين ، أي يصد كل طائر قدر من الهواء عن الذي يليه بترك مسافة متساوية بينهم ، ليصبح الهواء المواجه للجناحين أقل بنسبة 10 % ، فيقل الجهد ولا يحتاج الطائر التزود بالماء والغذاء خلال الرحلة ، فيطير لمسافة خمسمائة ميل دون توقف ، ويكون الطائر القائد المناوب في المقدمة ، والذي يعطي الدور لغيره عندما يتعب أو يسقط ويموت ، ويتأكد السرب من تكون ضلعي الرقم ثمانية بنفس العدد والطول ، وفي أثناء الرحلة يبقى في الخلف طائر تقع عليه القرعة أوتوماتيكيا ، فيكون دوره في الاحتياط ، فإذا تخلف أحدهم عن السلسلة هنا أو هناك حل محله ، وكل هذا بالفطرة .
لنتحدث الآن عن صاحب الخلافة في الأرض ” الإنسان ” المستعمر الأول ،الذي يحمل بين طيات جمجمته عقلا جباراً معقد التكوين . فلقد نال الإنسان القسط الأكبر في التكوين الاجتماعي على الأرض ، ونال الدروس التنظيمية والثقافية من الأنبياء والمصلحين ، والذي بعثوا من أجلها ، وهي إتمام مكارم الأخلاق التي بدورها تشذب وتهذب معنى الاعتراف بالآخرين ، لكي يكون عنصراً صالحاً في مجتمعه ، ويعيش بسلام واحترام .لكن حصل ما لم يحمد عقباه ، فقامت أمم على لغة الإقصاء والإبعاد ،و توارثته من جيل إلى آخر ، حيث مثل الإقصاء نزعة الشر من الأجداد بالتوارث ،وكيف قويت هذه الكلمة ،وأصبحت من القوة كالرحى ، حتى وقعت على جل الأثر ، والفتك بين الشعوب ، وخلق الفتن بين عناصر المجتمع ، وحتى أوجدت حواجز بين أعضاءه ، فكبر الجدار حتى أمتد وطال ، إلى أن فصل بين أمم بعينها ، وحضارات بتاريخها وثقلها ، فرأينا شعوباً حاضرة تقصى أخرى بائدة ، ومذاهب مستحدثة تقصي أخرى أصيلة وذات سيادة ، والسبب حب التملك والنزعة الشرسة التي يخفيها الإنسان سافك الدماء.
هل الإقصاء المسبب الأول للحروب في العالم ؟نعم مع الأسف ! فلو كان هناك تقريب لوجهات النظر والاعتراف بآراء الآخرين لما رفع سيف هنا أو هناك ، ولا غارت دولة أو مملكة على أخرى ، وهذا هو ديدن الجبابرة القدامى (أخذ الملك بالقوة مهما كانت النتيجة ) حتى بين ممالك الإخوة في أوروبا القديمة لم تسلم منها ، فتناحروا وتهالكوا ، وأهلكوا معهم شعوباً وأمم على أسباب تافهة ، حتى وقف المجتمع الغربي بجميع مذاهبه ولغاته ، يأخذ من الماضي عبرة ومن الحاضر فكرة ، فتناقشوا بجدية ، وخاصة في القرن الماضي ، واتفقوا على مسح كلمة إقصاء من قاموسهم ودستورهم، وركزوا على أول كلمة في ميثاق التعاون مع الناس، وهي ( الاعتراف بالآخرين ) .
الإقصاء لغة قديمة عند العرب …هل هذا صحيح ؟هناك نعرات عربية جاهلية قديمة توارثها العرب من أجدادهم حتى بعد دخولهم في الإسلام ، ومن أهمها إقصاء الغير ، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة ، حيث أورثوها للأجيال التي بعدهم ، حتى سببت لهم نخرا وصدعاً في العلاقات البشرية ، فتكبلوا الحروب والكوارث ، التي أتت أكلها الآن في القرن الحادي والعشرين ، واستمرت وستستمر الحروب والمشاكل بين شعـوب العالم ، وخاصة العربية ، ولن تقف عند حد معين حتى يأخذوا جميعهم دورة كاملة في ثقافة الاعتراف بالآخرين .قد يقول البعض إنك إنسان متشائم ، فقد بدأت الكلام وأسسته على محور الإقصاء وجعلت التقريب فرعاً في كلامك وطرحك ، وأقول لهذا السائل الكريم ، إنني أردت التركيز على الحبة السوداء داخل الطحين الأبيض لكي يسهل علينا انتشالها ، ولا نضيع وقتاً في تكرار الحديث .كم تمنيت أن أرى أهل الأرض يعترفون بلغة الاعتراف بالآخرين وبآرائهم ، وأن يتعمقون في فن ثقافة الاعتراف بمن يختلف معك ، والجلوس على طاولة القبول بالطرف الثاني ، وحتى لو كان خاطئاً أو مختلفاً ، وهذا الكلام يندرج حتى داخل الأسرة ، وبين أفراد المجتمع ، وكم أتمنى أن نغرس في أبناءنا حب ثقافة الاعتراف بالآخرين ، والله الذي لا إله إلا هو سوف يأتي عقد وجيل متفاهم يحل مشاكله ببساطة ، ويعترف بثقافة الأخر ، حتى يأتي التقريب بين كل الملل والنحل ، فحتى الله سبحانه بمكانته وعظمته وهو الخالق والمالك لهذا الكون أعطى فرصة لإبليس ليعبر عن رأيه ، ولماذا لم يسجد لأبينا آدم الذي يختلف معه في الرأي والخلقة .

أجمعت كتب السماء .. أعطى الله إبليس الفرصة كي يدلي برأيه .. فماذا عنك ؟

فوزي صادق / كاتب وروائي  :              @Fawzisadeq

شارك الخبر:

شارك برأيك

‫8 تعليقات

  1. نعم اعطى الله ابليس الفرصة ليدلي برايه ….
    لكن ابليس والاكثر ابلسة لايتخلقون بخلق الله ويمنعون الناس من الكلام !!! اما يكفرونهم او يحاربونهم اويمنعوهم من القول والكتابة
    فكلما أطلقت حرفاً
    أطلق الوالي كلابه
    آه لو لم يحفظ الله كتابه
    لتولته الرقابة
    و محت كلّ كلامٍ
    يغضب الوالي الرجيم…
    و لأمسى مجمل الذكر الحكيم…
    خمسُ كلماتٍ
    كما يسمح قانون الكتابة
    هي:
    (قرآن كريم..
    صدق الله العظيم)

  2. أجمعت كتب السماء .. أعطى الله إبليس الفرصة كي يدلي برأيه .. فماذا عنك
    ===============================================
    المقال لابأس فيه جيد لكني كنت اتمنى عليك الابتعاد عن الجملة المذكورة اعلاه!! لان الكلام عن الله سبحانه وتعالى يجب ان يكون اكثر تعقلا وحذرا والابتعاد عن هكذا تشبيه لان مقارنه اخلاق البشر وافعالها لايجب ان تكون بموضع مقارنة مع الخالق عز وجل ولا باي حال من الاحوال ولا بأس ان تكون مقارنة مع اخلاق الانبياء والرسل وهذا ما وقع ايضا في التعليقات !!!!!!!!!!!!!!!!

  3. موضوع جميل و هادف
    لكن بنفس الوقت يذكر الواحد بخيبة الامة العربية
    وكانها تلاشت عالاخر و السوس نقرها و التخلف عشش اركانها لان يا اخي ثقافة الاعتراف بالغير كما قلت لا ولن تاتي من عدم الا بمعجزة من الله عز وجل و للاسف لسنا بعصر المعجزات و انما بعصر التفجيرات و القتل اللامبرر و لغة الغاب السائدة التي كل يوم تاخرنا ملايين الخطوات للخلف في الوقت الذي فيه امم اخرى لم يكن لديها ماض لكنها صنعت حاضرها و حققت امجادها بكدها و تعبها و استغلالها للوقت و المكان واحترامها لادمغة علماءها و اعطاء لكل ذي حق حقه
    صدق من قال ينصر الله الامة العادلة ولو كانت كافرة و يذل الظالمة ولو كانت مسلمة
    و العدل هو اساس الملك الذي انعدم في اراضينا للاسف
    شكرا اخي على كل شيء

  4. اين تعليقي نورت ليس لي الوقت لاعادة كتابته
    ارجوكي اعرضيه
    و شكرا

  5. عجبني الموضوع معبر كثير
    و حياة الله انت بالذات فيرم طاكول
    شفنا شو عم ينقط منو
    شكرًا جزيلا اخ فوزي صادق

  6. من يقول (تخلقوا بأخلاق الله ) ليست حديث شريف نقول اننا ناخذه او نفهمه كما نفهم اية( كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون )اي علماء فقهاء عارفين بالله فكما الله رحيم يحب المتراحمين ويحب المؤمنين وانه صبور يحب الصابرين ويبغض الظالمين ، يجب على العبد ان يتخلق بهذا الخلق وهي نفس الاخلاق التي اتصف بها الانبياء والائمة والصالحين عليهم الصلاة والسلام فلا باس منه او استحسانه وفق هذا الفهم ولا مجال لنفيه كحديث حسن ان قيل انه حديث ان تواتر عن اهل بيت النبوة عليهم السلام بسند وتمحيص نعرضه على كتاب الله ان وافقه اخذنا به والا ضربنا به عرض الحائط .

  7. يا أخ ابو حسين اعرف انك لا تقصده حديث شريف وصدقني انا عادة لا اتبع طريقة اغلب المعلقين بان اذهب قبل تعليقي الى غوغل وانسخ والصق الا ما ندر حتى لا اقع بنفس الخطأ الذي وقعت انت به للمرة الثانية !!! فانت اتيت بمعنى كلمة ربانيين من النت انها علماء فقهاء وهذا صحيح لكنك اضفت عليها من عندك ان معناها ان تكونوا رحمين وصبورين الى اخر تعليقك …….لاحاجة لان اكتبه !!
    واسمح لي فانا استجابة فقط عند طلبك اتيت لك من النت !!!!!!!!!!!! باية قرانية !! وهي
    ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ)(المائدة: من الآية44).ومن علامات الربانيين أنهم يحرصون على تحكيم الشريعة وإقامة الدين ….
    والاية تدلك ان تتحلى بصفات الخلق لا الخالق !!!! وهم الذين هادوا والاحبار والربانيون الذين يحفظون كتاب الله اي الربانيون هنا اشخاص كما تقول رب عمل او رب اسرة وليس المقصود به الخالق عز وعلا
    ومن النت قد يقنعك اكثر بعض الشيء اتيت لك ايضا بهذا المعني
    والربانيون بمعنى الجماعات الكثيرة من العباد والعلماء !!!!!!!!!!

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *