قرّر كاتب السيناريو أن يصنع فيلماً واقعياً حقاً . وقرر الناقد السينمائي أن ينقد السيناريو نقداً واقعياً حقاً .

جلس الكاتب، وجلس الناقد .

الكاتب: (منظر خارجي – نهار: الموظف يحمل أكياس فاكهة، واقف يقرع باب بيته)

الناقد: بداية سيئة. في الواقع، ليس هناك موظف يعود إلى بيته نهاراً. لا بد له أن يدوخ ا لد و خا ت السبع بين طوابير الجمعيات ومواقف ا لبا صات، فإذا هبط المساء وعاد إلى بيته – إذا عاد في هذا الزمن المكتظ بالمؤامرات والخونة – فليس إلاّ مجنوناً ذلك الذي يصدّق أنه يحمل أكياس فاكهة !

الواقع انّه مفلس على الدوام. وإذا تصادف انه أخذ رشوة في ذلك اليوم، فالواقع أن الفاكهة غير موجودة في السوق .

الكاتب: (منظر خارجي – ليل: الموظف يقف ليقرع باب بيته) .

الناقد: هذا أحسن..وإذا أردت رأيي فالأفضل أن تُزوّدهُ بمفتاح. لا داعي لقرع الباب في هذا الوقت . ا نت تعرف أن قرع الباب – في هذا الزمن المليء بالمؤامرات والخونة – يرعب أهل الدار ويجعل قلوبهم في بلا عيمهم. الموظف نفسه لن يكون واقعياً إذا فعل ذلك بأهله كلّ يوم. نعم..يمكنك التمسّك بمسألة قرع الباب، على شرط أن تبدل الموظف بشرطي أو مخبر .

الكاتب: (منظر خارجي – ليل:الموظف يضع المفتاح في قفل باب بيته ويدخل ..) لكن يا صديقي الناقد، ما ضرورة هذا المنظر؟ إنه يستهلك ثلاثين متراً من الفيلم الخام بلا فائدة. لماذا لا أضع الموظف في البيت منذ البداية ؟

الناقد: هذا ممكن، لكن الأفضل أن تُبقي على هذا المنظر. فالواقع ان جاره يراقب أوقات خروجه وعودته، وإذا لم يظهر عائداً، وفي نفس موعد عودته كل يوم، فإنك تفترض أن تقرير الجار سيكون ناقصاً. وهذا في الواقع أمر غير واقعي، بل ربما سيدعو الجار إلى اختلاق معلومات لا أصل لها .

الكاتب: (منظر داخلي – متوسط: الموظف يخطو داخل الممر…)

الناقد: خطأ، خطأ .. ينبغي أن يدخل مباشرة إلى غرفة النوم .

الكاتب: لكنَّ هذا غير واقعي على الإطلاق !

الناقد: بل واقعي على الإطلاق. أنت غير الواقعي. إنك تفترض دخول الموظف إلى بيت، وهنا وجه الخطأ. الموظف عادةً يدخل إلى وجر كلاب. نعم. هذا هو الواقع. البيت غرفة واحدة تبدأ من الشارع..دعك من أ د و نيس، البيت ثابت لكنّه متحوّل. فهو غرفة النوم وهو المطبخ وهو حجرة الجلوس وهو ا لحو ش .

الكاتب: (منظر داخلي – قريب: الموظف يخطو على أجساد أولاده النائمين – تنتقل الكاميرا إلى وجه الزوجة وهي تبدو واقفة وسط البيت “كلوز آب” تبدو الزوجة مبتسمة، وعلى وجهها ا مارات الطيبة…

الزوجة: أهلاً.. أهلاً.. مساء الورد)

الناقد: إ قطع.. بدأت بداية حسنة لكنك طيَّنتها. في الواقع ليس هناك زوجات طيبات، والزوجات أصلاً لا يبتسمن، خاصّة زوجات الموظفين..ثم ما هذا الحوار الذي مثل قلّته؟ مَن هذه التي تقول لزوجها أهلاً ثم تكرر الأ هلاً ثم تشفع كل هذا بمساء الورد ؟!

أيّة واقعيّة في هذا ؟ د عها تنهض من بين أولادها نصف مغمضة، مشعـثة الشعر، بالعة نصف كلامها ضمن وجبة كاملة من التثاؤب.. ثم اتركها تولول كالمعتاد..

(الزوجة: هذا أنت؟ إ ييه ماذا عليك؟ الأولاد نا موا بلا عشاء، وأنت آتٍ في هذه الساعة ويداك فارغتان . مصيبتك بألف يا سنيّة..)

الكاتب: انظر ماذا فعلت..لو تركتني أزوّده بكيس واحد من الفاكهة على الأقل، لما اضطرَّ إلى مواجهة أناشيد سنيّة .

الناقد: زوّده يا أخي. لكنك لن تكون واقعياً. ثم أن أناشيد سنيّة لن تنقص حرفاً واحداً..بل ستزيد. إن كيس الفاكهة ليس حذاءً جديداً لابنته التي تهرّأ حذاؤها، ولا هو مصروفات الجامعة لابنه الأكبر، ولا أجرة الرحلة المدرسية التي عجز ابنه الأوسط عن دفعها حتى الآن .

الكاتب: يصعب بناء الحبكة المشوّقة بوجود مثل هذه المشاكل التي لا حلَّ لها في الواقع .

الناقد: اجتهدْ..حاول أن تتخلّص من أولاده قبل مجيئه .

الكاتب: إنهم نائمون أصلاً. ماذا أفعل بهم أكثر من ذلك ؟

الناقد: د عهم نائمين..ولكن في مكان آخر. في السجن مثلاً. هذا منتهى الواقعيّة. لا يمكن أن يكونوا في هذا العمر ولم ينطقوا حتى الآن بكلمة معكّرة لأمن الدولة !

الكاتب: وماذا أفعل بسنيّة؟ إنَّ ا نا شيدها ستكون أشدَّ حماسةً في هذه الحالة .

الناقد: اقتلْها بالسكتة القلبية..من الواقعي أن تموت الأم الرؤوم مصدومةً باعتقال جميع أبنائها دفعةً واحدة .

الكاتب: ماذا يبقى من الفيلم إذن ؟!

الناقد: عندك الموظف .

الكاتب: ماذا أفعل بالموظف ؟

الناقد: لا تفعلْ أنت..د َعْ جاره يفعل . تخلّصْ من الجميع بضربة واحدة. الزوجة في ذمّة الله، والموظف وأولاده في ذمّة الدولة. ونصيحتي أن تقف عند هذا الحد. فإذا فكّرتَ أن تذهب أبعد من هذا فستلحق بهم .

الكاتب: كأنّك تقول لي ضع كلمة (النهاية) في بداية الفيلم . أيُّ فيلم هذا؟ لا يا أخي،  د عنا نواصل حبكتنا كما كنا، وبعيداً عن السياسة .

الناقد: كما تشاء . واصل .

الكاتب: (كلوز – وجه الزوجة وهي غاضبة)

(الزوجة: هذا أنت؟ إييه ماذا عليك؟ الأولاد نا موا جائعين، وأنت آتٍ كالبغل في مثل هذه الساعة ويداك فارغتان كقلب أمِّ موسى. مصيبتك سوداء يا سنيّة)

(قطع – الكاميرا على وجه الزوج – يبدو هادئاً)

( الموظف: ماذا أفعل يا عزيزتي؟ هذا قدرنا. الصبر طيّب. نامي يا عزيزتي. الصباح ر باح)

الناقد: هراء..هذا ليس موظفاً. هذا نبي ! بشرفك هل بإ مكانك أن تتحلّى بمثل هذه الرقّة حين تختتم يومك الشاق بوجه سنيّة؟ إ نقل الكاميرا إلى وجه الموظف . كلوز رجاءً ، حتى أريك كيف تكون الواقعيّة…

(الموظف حانقاً يكاد وجهه يتفجّر بالدّم: عُدنا يا سنيّة يا بنت ا ل..؟ أكلّ ليلة تفتحين لي باب جهنم؟ ألا يكفيني يوم كامل من العذاب؟ تعبت يا بنت السعا لي. تعبت. إ ذهبي إلى الجحيم(يصفعها)إ ذهبي.. أنتِ طا لق طا لق طا لق. طا لق بالألف. طا لق بالمليون ..هه)

(الزوجة تتسع عيناها كمصائب الوطن العربي، أو كذمّة الحكومات. وتصرخ:         و آآآآ ي.. وآآآآي)

(الكاميرا تنتقل إلى الأولاد. يستيقظون مذعورين على صوت ا مهم الحنون. يصرخ الأولاد. يزداد صراخ الموظف. قرع على الباب ولغط وراءه. تنتقل الكاميرا إلى الباب لكنها لا تلحق، الباب ينهد م تحت ضغط الجيران، وتمتلئ الغرفة بهم، ويتعلّق بعضهم بالمروحة لضيق المكان. ضجة الجيران تعلو.أحد الجيران – ولعلّه الذي يكتب التقارير – يحاول تهدئة الموقف)

(الجار: ماذا حصل؟ ماذا حصل يا أخي؟ ماذا حصل يا أختي ؟

الموظف: لعنة الله عليها .

الجار: تعوّذ من الشيطان..ما ا لحكاية ؟‍‍‍

الزوجة: هووووء . طلَّقَني..بعد كلِّ المرّ الذي تحمّلته منه، طلّقني .

الجار: لا. ا نت عاقل يا أخي. ليس الطلاق أمراً بسيطاً .

الموظف: أبسط من مقابلتها كلّ يوم. لعنة الله عليها .

الزوجة: إ سألوه يا ناس..ماذا فعلتُ له؟‍

الموظف: ا نقبر ي .

الجار: لكل مشكلة حل يا جماعة .

الموظف: لا حل .

الزوجة: يا ناس. يا بني آدم. هل هي جريمة أن ا قول له لا تشتم الرئيس ؟‍!

(الجار فاغر الفم والعينين..يحدّق في وجه الموظف..إظلام)

الكاتب: وبعد ؟!

الناقد: ليست هناك مشكلة.. بعد إعدام الزوج، سيمكن الزوجة أن تعمل خادمةً لتعيل أولادها قبل إلقاء القبض عليهم في المستقبل . تصرَّفْ يا أخي. د ع أحداً من الأولاد يترك الدراسة ليعمل سمكريّاً. أدخله في النقابة وعلّمه كتابة التقارير. أو د عه يواصل دراسته، لكن اجعل ا خته تنخرط في الإتّحاد النسائي. بحبحها يا أخي. كل هذه الأمور واقعية .

الكاتب: واقعية تُوقع المصائب على رأسي.. أيّة رقابة ستجيز هذا السيناريو ؟!

الناقد: إذا أردت الواقع..أعترف لك بأنَّ الرقابة لن توافق .

الكاتب: ما العمل إذن ؟

الناقد: الواقعيّة المأمونة هي ألاّ يعود الموظف، ولا توجد سنيّة وأولادها، ولا يوجد البيت .

الكاتب: هذا أفضل .

يرفع الكاتب يده عن الدفتر..ويرفع الناقد لسانه عن النقد .

***

في اليوم التالي.. يرفع الكاتب رجليه على الفلقة، ويرفع الناقد رجليه على المروحة .

في هذا الزمن المليء بالمؤامرات والخونة.. كلُّ شيء مُراقَب !

* أحمد مطر *

شارك الخبر:

شارك برأيك

‫13 تعليق

  1. !!!!!!!!!!
    سامحني اخي مامون هذه اول مرة بحياتي لم افهم موضوع من مواضيعك.
    قراته عده مرات لكن لم افهمه الرجاء اعادة نشره بطريقه مختلفه.
    شكرا اخي.

  2. الموضوع بسيط يا مصطفى .. كاتب يريد أن يكتب سيناريو .. وناقد ينقد له ما يكتب حتى يكون متماشياً مع الواقع الذي نعيشه بأسلوب أحمد مطر الساخر ..
    لا أدر حقيقةً ما هو الذي لم تفهمه مع أن القصة مفهومة وواضحة ..
    شكراً لك على كل حال ..!!

  3. سطوة الظلم تخنق المبدع وتجعل الناقد مبرمجا فبدلا من ان يغربل العمل يكون مقصا قبل ان يكتب السناريو اصلا .
    هكذا هو أحمد مطر في شعره ونثره جلادنا بسوط السخرية .
    شكرا مامون هذا هو الواقع للاسف موجهون دائما لا خيارات ولا بدائل .

  4. صدقتِ يا لبنى .. الواقعية في نظر الناقد .. الذي يعيش في عالم كعالمنا هو ان يكون المواطن فقيراً شحاذاً .. فمن غير الواقعي أن يعود للبيت وبيده كيس فاكهة … والواقعية في هذا الزمن الذي نعيش فيه … زمن ملوك الطوائف ،، الواقعية أن يكون مصير الآباء والأبناء هو السجن .. هكذا أصبحت الواقعية في زمن كزمننا ..
    شكراً لمرورك لبنى ولتعليقك القيّم ..!!

    1. لكن اليس من الظلم جعل الناقد أداة من ادوات ممارسة الظلم من خلال ترسيخه لفكرة استحالة التحرر من نمطية المصير المعروف للآباء والأبناءوهو نفسه يعتبر ضحية هذا؟

      1. هذا توصيف لواقع يا لبنى وليس وضع للحلول .. وبداية إيجاد الحلول هو التوصيف الصحيح للواقع .. فهمتي شي ^_^ ؟

  5. لماذا لاتبدلوا المواقع بجعل الناقد يكتب والكاتب يقرأ؟!هيك بستريحوا وبتريحوا0

  6. اسمى «جلال» وفى البيت «المخفى».. وأنا أول مواطن يدخل قسم الشرطة ويخرج حياً.. وأنا المصرى الوحيد الذى كتبت فى إقرار ذمتى المالية أن عندى «حصوة» فأنا لا أمتلك «سلسلة مطاعم» بل فقط «سلسلة ظهرى» وسلسلة كتب، وحضرت عشرات المؤتمرات الثقافية تحت شعار «دع مائة مطواة تتفتح» ونجوت منها.. وأعرف أن 90% من جسم الإنسان ماء، لكنه يستطيع أن يفعل الكثير بالعشرة فى المائة الباقية.. عندى بطاقة تموين حمرا خالية من الدهون، لأن البقال كل شهر يسرق الزيت، ولا أصرف معاشاً بسبب عيب خلقى وأخوض معكم حرب الثلاث وجبات.. وأرتدى بيجاما مخططة ولعلها الشئ الوحيد المخطط فى هذا البلد العشوائى، وأى تغيير فى لون البيجاما أبلغ عنه فوراً شرطة المصنفات.. وأؤمن أن أعظم كاتب فى البلد هو «المأذون» وأن مصر بخير ولا ينقصها إلا أكلة «جنبري» على البحر.. وأحفظ برنامج السيد الرئيس فى درجة حرارة الغرفة، وأعرف أن الحياة بدأت بضربة جوية وسوف تنتهى بضربة أمنية، لذلك لا أحب الصراعات، والمرة الوحيدة التى تصارعت وتدافعت فيها فى الطابور ونجحت فى الحصول على خبز سحبوه منى بحجة أننى أتعاطى منشطات.. أعشق أخلاق زمان عندما كنت طفلاً وأرى صاحب أبى ولو على بعد كيلو مترا فأجرى وأعزم عليه بسيجارة.. الآن أصبحت القرى السياحية أكثر من القرى الزراعية.
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
    واقع اخر، باسلوب اخر، لكاتب اخر “الراحل المصرى الساخر: جلال عامر”.
    مشكــــــــــــــــــور مأموووون… تحيااااتى.

      1. فكرت بأن أكتب شعراً
        لا يهدر وقت الرقباء

        1. فكرت بأن أكتب شعراً

          لا يهدر وقت الرقباء

          لا يتعب قلب الخلفاء

          لا تخشى من أن تنشره

          كل وكالات الأنباء

          ويكون بلا أدنى خوف

          في حوزة كل القراء

          هيأت لذلك أقلامي

          ووضعت الأوراق أمامي

          وحشدت جميع الآراء

          ثم.. بكل رباطة جأش

          أودعت الصفحة إمضائي

          وتركت الصفحة بيضاء

          **

          راجعت النص بإمعان

          فبدت لي عدة أخطاء

          قمت بحك بياض الصفحة

          واستغنيت عن الإمضاء

  7. الحرية حق لكل الكائنات

    أحمد مطر

    أخبرنا أستاذي يوما عن شيء يدعى الحرية

    فسألت الأستاذ بلطف أن يتكلم بالعربية

    ما هذا اللفظ وما تعنى وأية شيء حرية

    هل هي مصطلح يوناني عن بعض الحقب الزمنية

    أم أشياء نستوردها أو مصنوعات وطنية

    فأجاب معلمنا حزنا وانساب الدمع بعفوية

    قد أنسوكم كل التاريخ وكل القيم العلوية

    أسفي أن تخرج أجيال لا تفهم معنى الحرية

    لا تملك سيفا أو قلما لا تحمل فكرا وهوية

    وعلمت بموت مدرسنا في الزنزانات الفردية

    فنذرت لئن أحياني الله وكانت بالعمر بقية

    لأجوب الأرض بأكملها بحثا عن معنى الحرية

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *