لقد قضيت السنتين الاخيرتين من الحرب الكونية الماضية في مدينة النواعير حماة…
وكنت اذهب في كل يوم الى المحطة لاشاهد عساكر الاتراك والالمان وهم ينسحبون امام طلائع جيش الحسين.
وجاء يوم سادت فيه الفوضى، فلا حكومة، ولا شرطة، بل كان الناس يترقبون بفارغ الصبر وصول طلائع الجيش العربي!
وفي عصر احد الايام تصاعد الغبار من البادية فاسرعنا، نحن بضعة عشر غلاماً، لاستقبال الوافدين!
ولم يكن هؤلاء سوى جموع من العربان اقبلوا على جمالهم وخيولهم لغزو العنابر، والمستودعات في محطة المدينة!
ووقفت اتفرج على القوم وهم يهزجون ويحدون ويأخذون سنابل القمح ويحملونها على ظهور الابل بكل حرية وطمأنينة!
وفجأة سمعنا عريراً في السماء…
ثم انقضت ثلاث طائرات حليفة واخذت تمطر الغزاة بوابل من رصاص مدافعها الرشاشة.
ودب الذعر في العربان، واختلط حابلهم بنابلهم، وخيولهم بجمالهم، واخذ القوم يركضون وانا اركض معهم… ويولولون وانا اولول بينهم!…

وكنت اسير في الجهة التي يسيرون فيها اذ خيل الي ان طريقهم هي طريق السلامة والامان!…
وبعد ان اجتزنا مسافة بعيدة رأيت نفسي غريباً بين العربان الهاربين!…
والتفت احدهم فشاهد غلاماً ابيض الوجه، ازرق العينين، ملتحقاً بالموكب، فاقبل يسألني وش تبغي؟!
قلت: انا هارب من الطائرات…
قال: زين يا ولدي… ولكن الى اين ذاهب؟
قلت: الى المدينة…
قال: المدينة من هين… واشار ببندقيته الى الوراء!
قلت: ولكني اخشى ان اضل الطريق.
فاطرق الاعرابي قليلاً ثم قال: زين يا ولدي زين… الحق البعرة تدلك على بلدك…

ولم اشأ ان الحق البعرة… بل بقيت واقفاً في مكاني لا اجرؤ على اللحاق بالعربان ولا على الرجوع الى المدينة!
وحان الغروب… ثم بدأ الظلام يبسط جناحيه على البادية، فأثار القفر والوحدة وظلام الليل الرعب في نفسي فطفقت ابكي..
وبينما انا على هذه الحال اذ باعرابي، من بقايا القافلة، يقود جملاً اعتلت ظهره امرأة يقف ويسألني عن سبب بكائي ووجودي في البادية؟
وبعد ان رويت له قصتي تشاور مع المرأة ثم اناخ الجمل واصعدني الى ظهره…
وسار الموكب في ظلمة الليل، وفي جو من السكون الرهيب، ومع ذلك فقد كنت مطمئناً بعض الاطمئنان واطل البدر على الصحراء، بل على ذراعين رحيمتين تحتضنان غلاماً كان قبل ساعة من اتعس الناس!
ونظرت الى وجه حاضنتي فوددت لو اني اقضي العمر كله على ظهر البعير!…
لقد كانت صبية من بنات العرب، سمراء البشرة، مكحولة العينين!
وكانت في نظري اجمل من البدر واغلى علي من الدنيا كلها. وبالرغم من البرد الشديد فقد شعرت بالدفء، وبشيء يخفق ويعربد في جنبات الصدر!
ورأتني أحدّق في عينيها فابتسمت ابتسامة كلها رحمة وحنان وشمم. وبين سحر ابتسامتها وهدهدة بعيرها اسندت رأسي الى صدرها وغفوت… ولم اصح الا وانا بين مضارب العشيرة ومداعبة الزينات!
قالوا: ستقيم بيننا. قلت: كما تشاؤون…
قالوا: وسنسميك: حمد… قلت: كما ترتأون…
قالوا: وستلبس القميص، وتحلب الشاة، وترعى النعاج، ونعلمك ركوب الخيل… وهكذا كان…
وصرت كأني واحد منهم، بل كأني ولدت تحت خيمة من الشعر.
لقد اعتدت على حياة البادية، واحببت العيش بين الخيام، واوشكت ان انسى الماضي تماماً!… كنت في فرح دائم، ونشوة مستمرة اما رجال العشيرة ونساؤها فكانوا يحسنون معاملتي، ويطربون لمجلسي، ويضحكون اذا جلست احدثهم كيف نزحت من لبنان الى حماة، ثم كيف هربت من الطائرات الى البادية. وذات مساء سمعت صوتاً ينادي: حمد.
والتفت الى مصدر الصوت فرأيت رفيقتي شهرزاد. واشارت بيدها فهرولت اسألها: ما تبغين؟
قالت: اقعد… قلت: الا يغضب علي والدك؟
فتطاول جيدها وقالت بحزم: انا هنا سيدة مضربي… اقعد.
وقعدت الى جانبها، ثم طلبت مني ان اقص عليها قصة… ولكني في هذه المرة تلعثمت… ولبثت ساكتاً جامداً، والشيء الوحيد الذي كان يتحرك وقتئذ هو الخافق المعذب في صدري! ولاحظت شهرزاد ان يدي ترتجف، ووجهي يحمر، وعيني اوشكتا ان تدمعا… فقالت: علامك يا حمد؟!
ولكني لم اجب، فقد كنت خجولاً ذاهلاً شديد الاضطراب!
لقد تبدلت تماماً ولم اعد ذلك الغلام اللعوب الطروب الذي تضحك لحركاته واحاديثه نساء العشيرة ورجالها! وعادت تقول: علامك يا حمد؟
ولكن اي حمد، واية علامة من علامات التحول والتطور قد بدت عليه؟
كنت انظر اليها فاضطرب، واحدق في عينيها فاشعر بدماء حارة تجري في عروقي، واحاول ان اقول شيئاً فلا استطيع، بل لا ادري ماذا اقول؟!
هذا شيء جديد في حياتي… انه نوع من الاحترام، من الحياء، من العبادة… انه هذه الاشياء كلها، واذا شئت فقل انه الحب البكر الذي لم اعرفه من قبل، ولم احسه الا الآن، وتحت تأثير هذا السحر الدافق من جمال شهرزاد، ومن انوثتها ورقتها وحنانها الصامت! وكأنها تضايقت من سكوتي فاشارت علي بالذهاب وذهبت لانام ولكني بقيت ساهراً ارقاً افكر بشهرزاد!
وفجأة نهضت وعدت منسلاً الى خيمتها. كانت نائمة، فوقفت انظر، واطيل النظر الى وجهها الجميل، الى جفنيها الكحيلين، الى ابتسامتها الحالمة، وبحركة لا شعورية تناولت يدها وطبعت عليها قبلة اودعتها اسمى واطهر ما يكنه صدري من الحب والاحترام! وصاحت الفتاة مذعورة… وخرجت من صدرها زعقة هب على اثرها رجال العشيرة يتساءلون: ماذا حدث؟
ولما افتضح امري قال قائل: اقتلوه. وقال آخر: اذبحوه. واقترح ثالث ان اشوى على النار! ولكن شهرزاد هذه المرأة الكريمة الخلق، الرقيقة القلب، انتصرت لي – وليس اسعد من الانسان الذي تنتصر له امرأة يحبها – واقنعت والدها شيخ القبيلة باني فتى قاصر وحسن النية.
وبعد ساعات كنت في طريق العودة الى حماة، ثم الى مسقط الرأس لبنان!

شارك الخبر:

شارك برأيك

‫27 تعليق

  1. الظروف التاريخية لكتابة هذا المقال
    إستحضر الكاتب سعيد فريحة ذكرى بعيدة لديه و هي حدثت إبان دخول القوات العربية بقيادة الأمير فيصل إلى دمشق، بدعم من الجيش البريطاني، لتنهي أربعة قرون من الاحتلال العثماني لسوريا.
    و الأرجح ان البدو العرب كانوا بانتظار طلائع هذه القوات العربية كانوا فرحين بخلاصهم من العثمانيين و كانوا يدعمون تسليم البلد الى القوات العربية غير عالمين وقتها إنها بداية تطبيق معاهدة سايس بيكو
    تصادف وجود سعيد فريحة الفتى هناك و هو يروي لنا بإسلوبه الطريف هذه الواقعة

  2. نها
    موضوع جميل جداً
    صور راءعه
    قصه جميله
    وليس أسعد من الانسان الذي تنتصر له أمراه يحبها … كلام أعجبني كثيرا
    وياحلاوة الرجوع الى الوطن
    لي عوده ثانيه يانها لأخرج ما في جعبتي من الحديث عن هذه الصور آلراءعه وربما أتحدث اكثر على القصه

  3. سعيد فريحة صحفي لبناني رائد. ولد في بيروت، ثم انتقل مع والدته إلى حماة، حيث عمل في دكان للحلاقة، وبدأ يراسل الراصد في بيروت والتقدم والقبس. عاد إلى بيروت محررًا في الحديث فلنتابع ما كتب عنه الصحافي سمير عطالله ” كان أستاذاً فريداً في فئته وفي طبقته وفي نوعه. أسس أول دار صحافية في لبنان. وأسس مدرسة تدرج فيها كثيرون ولم يتخرج فيها أحد. بدأ الحياة من تحت الأرض، والصحافة من تحت الحصيرة، وارتقى وارتقى ولم يوقفه عن الارتقاء سوى الحتف.
    كان يتيماً بلا أب ، وكريماً بلا حدود، ومحباً للحياة بلا حساب، ومحباً للمرأة والصحافة، لا تعرف إن كان يعشق الحسن من أجل الكتابة أم يبرع في الكتابة من أجل الحسن. وكان ظريفاً آسر الحضور إذا ضحك، وآسر الحضور إذا غضب، ويغادر المكان إذا ثار، ثم لا يلبث أن يعود، ضاحكاً من نفسه، معتذراً، مثل طفل، عما فعل”.
    كان شديد الأناقة، يليق به أي شيء، من (البرنس دوغال) ومربعاته، إلى الأطقم الداكنة الرسمية، وكان يغير البدل بالعشرات نكاية بسنوات الفقر واليتم والجوع، ويغير ربطات العنق بالعشرات، ويسهر الليل حتى آخره، ويعمل النهار حتى آخره، فقد كان يعود من السهرة عند الفجر. وبدل أن يصعد إلى بيته في الطابق الرابع، كان يتوقف عند مكتبه في الطابق الثالث، ويكتب وعندما كان يصيح عليه ديك الجيران، كان يطل من النافذة ويشتمه، وفي النهاية اشتراه من الجارة، ثم اشترى بيتها، ووسع الدار التي ولدت من (جعبة) ظريفة لم يقلدها أحد.

  4. صنع كل شيء من لا شيء، جد وتوكل، وعندما أعود إلى سيرته وبداياته، تذهلني الجرأة التي كان يملكها، والشجاعة التي رافقته، والإقدام الذي رفعه شعاراً. بدأ حياته صبيا حلاقا فقيراً معدماً ومتروكاً. وقرر أن يصبح صحافياً، وبدأ الصحافة في حلب مخبراً صغيراً ومتعثراً. ثم صار صحافياً معروفاً ولم يتوقف، أراد أن يكون من كبار صحافيي لبنان، ومن رجال العرب، فأنشأ مجلة (الصياد) في بيروت في مكان من غرفتين، وجعلها كاريكاتورية بدل أن تكون مجلة عادية، وكان يملؤها بنفسه: (الجعبة) الظريفة، والافتتاحية السياسية الجريئة، وبدأ صبي الحلاق، من دون أي عقدة، يستقطب كبار الكتاب والصحافيين: خليل تقي الدين، وسليم اللوزي، ومارون عبود وتوفيق يوسف عواد وسعيد عقل وإميل الخوري، وكل من استحق يومها لقب (الأستاذ الكبير) مرفقاً باسمه، وفي السياسة اختار رياض الصلح وجعله رياض بين حوارييه، وبقي مخلصاً لرياض بك طوال عمره، وأطلق عليه لقب (الزعيم الخالد); وبسببه تعرض لمحاولات الاغتيال، وتكررت المحاولات في ما بعد بسبب الزعيم الآخر، جمال عبد الناصر. وعندما اشتد الضيق عليه العام 1958 لجأ إلى مصر، وظل هناك إلى أن ربح، مع غيره، المعركة ضد التجديد للرئيس كميل شمعون، وحاول خوض المعركة النيابية على لائحة العروبة في بيروت، لكنه أخفق وحوَّل نتائج المعركة إلى (جعبات) يكتبها ضد رفاقه في اللائحة الذين خانوه، وحوَّل فشله إلى مجموعة من النكات واللمحات، وأقسم على ألا يكرر المحاولة مرة أخرى.

  5. فعلاً يا ناديه ليس أسعد من الانسان الذي تنتصر له أمراه يحبها و العكس صحيح
    المهم لا أشارك سعيد فريحه أفكاره السياسية لكني عرضت بشكل موضوعي لبداياته العجيبه من شدة الفقر

  6. نها
    الحقيقه انا لا اعلم الكثير عنه او عن ميوله السياسية ولكن من الجميل ان نبحث ونقرأ عن شخصيات لعبت دورا مهما في الحياة ان كان سياسيا او فنيا او علميا .. الخ .. شكرًا نها لان مواضيعك حقاً راقيه وممتعه

  7. انتصار المرأة لرجل يهواها له طعم آخر فقد كان عنتر غير محتاج لان تنصره عبلة لكن موقفها منه و دفاعها عنه أمام أبيها انعكس حتى على شعره
    فقال : وقد ذكرتك والرماح مني نواهل وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف لانها برقت كثغرك المتبسم
    وهكذا عندما تنتصر الأخت لأخيها كفعل سيدتنا زينب مع الحسين عليهما السلام
    أو امرأة فرعون لموسى عليه السلام
    اما صاحبنا هذا في القصة يخرب بيته امرأة لاتحل لك تذهب تقبلها وهي ناءمة بمناسبة شو ؟

  8. تسلمين يا عمري .. احلى ذكريات في لبنان وريحة القهوة ع الصبح ..
    والورد دايما يهدي ورد وانا اموت في الورد لهذا السبب أخذت شهاده من اميركا في تصميم الزهور
    اما فناجين القهوه الزهري حبيتها كثير مع الحلقوم (الحلو)

  9. إن شاء الله منشربها ب بيروت عندي لاحظي ما بشرب القهوة بدون قشوة
    كيف إهدن و ولاد أختك

  10. في الوقت الذي تنتصر لك امرأة قد تنتقم منك أخرى
    شخصيا لا أرى سببا لانتقام مراقبة نورت الحسناء مني بهذا الشكل ومنع تعليقاتي !

  11. كل مرة ارى او اسمع فيروز اتذكر ابي وامي الله يرحمهم وحادث السيارة كانت فيروز تغني وانا نايمة في المقعد الخلفي —- وحشوني
    ღ✾*ღ*ღ✾*ღ*ღ✾*ღ*ღ✾*ღ*ღ✾*ღ✾*ღ*ღ✾*ღ*ღ✾*ღ*ღ✾*ღ*

  12. الله يرحمهم فرح ،كلامك بيكسر القلب
    وصدقيني لو نها بتعرف انك رح تزعلي ولا كانت نزلت الفيديو
    بس معليش هيك طلعتي شوية حزن من قلبك .
    الله يرحم اهالينا دنيا وآخرة امين

  13. وهب الحسيني في مارس 16, 2014 3:53 ص
    قد تنتقم منك أخرى
    haida chi akid, ma fi chak
    kalemek sahih ya wahb, bonjour

  14. وهب الحسيني في مارس 16, 2014 3:35 ص
    صباح الخير يا وهب
    وبحركة لا شعورية تناولت يدها وطبعت عليها قبلة اودعتها اسمى واطهر ما يكنه صدري من الحب والاحترام!
    هو طفل يبكي لفقدانه طريق البيت بريء بمشاعره التي بدأت تتبلور لكنه لا يدرك كنهها بعد .

  15. في الوقت الذي تنتصر لك امرأة قد تنتقم منك أخرى
    ههههههههههههههههه

  16. noha في مارس 16, 2014 8:44 ص
    … تنتقم إزا كانت غبية، و تعشقك أكتر إزا كانت ذكية …

  17. القصه رائعه وسعيد فريحه اكثر من رائع …تحيه لروحه وذكراه وابداعه

  18. lulu في مارس 16, 2014 9:31 ص
    يسعدني ان ما في جعبة الصياد أثار إعجابك و شكراً على مرورك

  19. ﻓﻲ ﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻥ : ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺴﺘﺄﺟﺮ ﻓﻨﺪﻕ ﻭﺃﻧﺖ ﻣﺴﻠﻢ ﻳﻌﻄﻮﻧﻚ ﻣﺼﺤﻔﺎً
    ﻭﺳﺠﺎﺩﺓ ﻭﺧﺮﻳﻄﻪ ﺗﺪﻟﻚ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﺠﺪ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪ ﻓﻲ ﻃﻮﻛﻴﻮ (‘:

    ﻓﻲ ﺍﻻﻣﺎﺭﺍﺕ : ﺗﺴﺘﺄﺟﺮ ﻓﻲ ﺑﺮﺝ ﺧﻠﻴﻔﻪ ﺗﻔﺘﺢ ﺍﻟﺜﻼﺟﻪ ﺗﺠﺪ ﺍﻧﻮﺍﻉ
    ﺍﻟﻤﺴﻜﺮﺍﺕ ﻭﺍﻟﺨﻤﻮﺭ ﻭﻳﻌﻄﻮﻧﻚ ﺧﺮﻳﻄﻪ ﺗﺪﻟﻚ ﻋﻠﻰ ﻣﻜﺎﻥ
    ﺍﻟﻤﺮﻗﺺ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺮﺝ ‘: !!

    ﻳﺤﺘﺮﻣﻮﻥ ﺩﻳﻨﻨﺎ ﻭﻧﺤﻦ ﻧﻬﻴﻨﮧ

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *