مرسلة من صديقة نورت سمية

لعل ما ساعد الدكتور عثمان سعدي على جمع هذا الكم الهائل من قصائد الشعر التي أنشدها شعراء سورية الحبيبة على الثورة الجزائرية هو شغله منصب سفيرا للجزائر لدى سورية و زياراته المتكررة لها بين الستينات و السبعينات. و أثناء مهمته الدبلوماسية نشر إعلانات عديدة عبر الصحف و المجلات و الإذاعة و التلفزيون السوري وجهها إلى كل شاعر نظم قصيدة في ثورة نوفمبر. كانت حصيلة بحث “السفير المؤرخ” جمع 198 قصيدة أنشدها 64 شاعر و شاعرة ينتمون إلى إحدى و عشرين مدينة وقرية موزعة على خريطة القطر السوري و هي: دير الزور, دمشق, الملاحة, طرطوس, سلمية, حماة, جبلة, حمص, النصرية, مصياف السويداء, اللاذقية, الحفة, دير عطية, معرة النعمان, حلب, بانياس, أدلب, أريحا السورية, الرقة و تدمر.
يذكر سعادة السفير عثمان سعدي أن بعض الأعمال الشعرية لم تكن ترق إلى مستوى الجودة لكن رغم ذلك ضمها إلى بحثه كقصيدة “محمد إبراهيم حسون” و هو إمام مسجد أنشدها في عدد من المساجد و هي تمثل نوعا من شعر الوعظ المقاوم إضافة إلى ضعف قصائد عيسى درويش و حسان عطوان (باستثناء قصيدة” يريدونها بلا هوية”)التي تعتبر جيدة و السبب في إبقاء هذه القصائد في بحثه الميداني راجع لصغر سن ناظميها فبفضلها تمكن من تكوين فكرة على موقف العرب اليافعين من الثورة و كيف عبروا على هذا الموقف شعرا.
و من خلال قراءتي لهذه الحصيلة الشعرية اكتشفت أن عثمان سعدي قدم من خلال عمله الكبير نماذج من مختلف المهن التي مارسها الشعراء فمنهم المعلم إلى مدرس ثانوية أو أستاذ جامعي أو تلميذ والطالب و منهم رجل الدين كالإمام و كاهن الكنيسة و منهم العاملون في سلك القضاء كرئيس محكمة أو مستشار في محكمة استئناف أو محام أو قاض و منهم أيضا العسكريون كعميد في سلاح المشاة أو عقيد في الطيران و الشرطي و مدير الدفاع المدني. أعجبني في البحث ترتيب الشعراء وفقا للحروف الهجائية و ذلك وفقا لما يتطلبه العمل الميداني الموسوعي و ما أعجبني أكثر هو تجنب سفيرنا المؤرخ تصنيف الشعراء تصنيفا عقائديا دون أن يضع على رأس الشاعر لوحة عقائدية أهو ماركسي أو إسلامي أو بعثي أو قومي تاركا الحكم للقارئ.
يقول عثمان سعدي : “لا يخفى على القارئ أنه على رأس هذه المجموعة من الشعراء يأتينا الشاعر السوري الكبير سليمان العيسى الذي استحق عن جدارة لقب شاعر الثورة الجزائرية فله بهذه المجموعة 37 قصيدة نظمها عن ثورة نوفمبر و عبر من خلالها عن أحداث الثورة و استمر حتى بعد الاستقلال يتغنى بها و بانجازاتها كثورة عربية فريدة عمقت اعتزاز العربي بأمته و جعلته يلجأ إلى أحداثها يستمد منها الثقة و الأمل في اشد الفترات ظلمة من التاريخ العربي الحديث”.
واكتشفت أيضا عند قراءتي للحصيلة الشعرية التي جمعها الدكتور سعدي أنه لا بد أن أعرض لكم كمقدمة الاتجاه القومي للشعب السوري لأن اسم سورية ارتبط بفكرة القومية العربية و الوحدة ثم بعد ذلك سأذكر مختلف الفصول الشعرية التي عرضها الدكتور عثمان سعدي في كتابه مثلا: الأمير عبد القادر في الشعر السوري, صورة المستعمر الفرنسي لدى الشاعر السوري, الثورة الجزائرية بالمنظور القومي, جميلة و نضال المرأة الجزائرية, الجبال و الثورة بالإضافة إلى أبواب كثيرة تطرق إليها الكاتب في الجزء الأول من الكتاب أما الجزء الثاني من الأطروحة فيضم أسماء لامعة من شعراء سورية وضع مع كل قصيدة تاريخ إلقائها مع التاريخ و الهوامش التي تشرح الأحداث و هو القسم الهام.
يتطرق عثمان سعدي إلى فكرة مهمة هي في نظري جوهر بحثه حيث يقول أن شعراء سورية لم يركزوا على قضايا الشرق فحسب بل شمل اهتمامهم أقطار المغرب العربي أيضا فتغنوا بثوراته و نظموا في محنها و مثال عن ذلك المقاومة الليبية الصلبة التي تصد فيها شيخ المجاهدين عمر المختار للمستعمر الفاشي و ينظم عبد الحميد الرافعي قصيدة في رثائه. و تندلع ثورة الريف بقيادة البطل عبد الكريم الخطابي في المعرب الأقصى و تستمر الحرب قرابة سبع سنين يدوخ فيها هذا الثائر جيشي فرنسا و اسبانيا و لعدم تكافؤ القوى, يقع قائدها أسيرا فينشد محمد الفراتي:

إن أسروك فإنهم لم يأسروا                إلا الهزير الأغلب المرهوبا
لا تأس فالتاريخ يحلف جاهدا          بالله أنك لم تكن مغلوبا
و ينظم عبد الحميد الرافعي قصيدة في رثائه و يصفه بأسد الغابة الذي صدم تقدم الإيطاليين الذين نعتهم بالشؤم و سماهم بالبوم و الغربان:
الله أكبر أن النصر موهوب   للمؤمنين و غاب الليث مرهوبا
تطاولت نحوه الطليان فانقلبت    و بومها كغراب البين غرابيب

يواصل عثمان سعدي قائلا: ” بدأ الفكر القومي يتبلور على يد محمد علي و ابنه إبراهيم باشا و كان السوريون قد تجاوبوا مع مشروع إبراهيم باشا الوحدوي و أيدوه بل إن بواكير الشعر القومي العربي بدأت مع مشروع إبراهيم باشا فسورية هي بلا جدال مهد الفكر القومي, تبلورت فيها فكرة القومية العربية التي تكمن في مواجهة القومية التركية المتطرفة فسورية هي أعرق الأقطار العربية في الشعور بالقومية العربية و أكثرها تجردا عن النزاعات الإقليمية و أشدها توقا إلى الوحدة العربية”.
بني نظام التعليم في سورية منذ الاستقلال عن الانتداب الفرنسي على فكرة القومية العربية الواحدة و ارتباط مصيرها بوحدتها في دولة واحدة و الدستور السوري لسنة 1950 ينص على أن “الشعب السوري يتطلع إلى اليوم الذي تجتمع فيه أمتنا العربية في دولة واحدة”. إذن فسورية توفرت لديها سائر الشروط لكي تصير رائدة للقومية العربية فبرامج التعليم و برامج الأحزاب السياسية و سياسة الحكومات المتعاقبة ساهمت كلها في تطوير الوعي القومي لدى الأجيال السورية المتتالية.
يركز الكاتب على فكرة مهمة جدا و هي تصدي شعراء الشام للنزعات الإقليمية ببعض الأقطار العربية كالفرعونية في مصر و الفينيقية ببلاد الشام و قد شجع الاستعمار هذه النزعات وذلك تبريرا و تأييدا للتجزئة التي تعتبر الأرضية الملائمة للأطماع الاستعمارية. هاجم شعراء الشام تلك النزعة الفرعونية خاصة عندما اكتشفت أسرار كنوز الآثار الفرعونية كفك رموز الكتابة الهيروغليفية, الأمر الذي حرك في نفوس بعض المثقفين المصريين اعتدادهم بالحضارة الفرعونية فقاموا بتفسيرها على أنها مناقضة لانتمائهم للأمة العربية و راح شوقي و حافظ إبراهيم و زكي أبو شادي و محمد الأسمر و غيرهم يفتخرون بهذا التراث مع تضمين بعضهم –أحيانا- تشكيكا للأصل العربي للمصريين.
و أنشد شفيق جبري الأبيات التالية عند زيارة شوقي لدمشق لام فيها بعض رجالات مصر الذين انساقوا وراء التيار الفرعوني إما متعاطفين معه أو ساكتين عنه
قائلا:

كهفان تضرب العروبة فيهما   حتى تجول على السنين مجالها
لو تشتكي مصر أذى بشمالها   بترت بروع الغوطتين شمالها
بالله بالقرآن بالبيت الذي     قذفت إليه جرهم أبطالها
لا تقطعوا صلة العروبة بيننا     حتى ندل على اللظى أدلالها

و يواصل الدكتور عثمان سعدي في نفس النقطة قائلا : “فهذه الفترة الفرعونية التي مرت على مصر كانت عابرة و سرعان ما انقشعت غيومها لتكشف عن صفاء سماء مصر العربي فالشعر العربي من مصر ظل عربي اللسان و الهدى قد علقت به بعض الشوائب إلى حين استطاع أن يتخلص منها”.
أختم هذا التمهيد الطويل بأجمل فقرة أعجبتني في هذا الفصل و هو أن أهم عنصر يوحد العرب ألح عليه الشعراء عموما و الشوام على الخصوص هو عنصر اللغة فقد اجتمعت كلمة العرب حولها و هذا لطف من الله. و يردد العربي في سائر أقطار العروبة مشرقا و مغربا نشيد فخري البارودي الذي يستهل بالأبيات التالية:

بلاد العرب أوطاني    من الشام لبغدان
و من مصر إلى يمن          إلى نجد فتطوان
فلا حد يمزقنا            و لا دين يفرقنا
لسان الضاد يجمعنا          بغسان و عدنان

اخترت لهذه المقدمة أبياتا لشعراء سورية يودعون رفات الأمير عبد القادر الجزائري. فصلاح درويش يرى أن رفات الأمير كانت تمثل أغلى المآثر و المكارم ظللته أشجار ضفاف بردى فيقول:

أغلى المآثر قد ظللت يا بردى        فخر ورثناه عن أجدادنا الأول
تجسد البذل و الإكرام في بطل             ضحى فصار لشعب مضرب المثل
أعلى المفاخر من أمجاد أمتنا                 تمثل المجد بالمجد من رجل

ثم يصف كيف اشتاق الجزائريون لرؤيته و ذابوا حنينا لعودته إلى تراب الوطن:

تلهف قوم من شوق لرؤيته    فآب من سفرة في الشام لم تطل

ثم يستدرك الشاعر و يقسم بالعروبة أن دمشق عز عليها أن يغادرها الأمير:

لا و العروبة ما ضاقت دمشق به     لولا حنينك يا وهران للبطل
لولا رفاق مصير أقبلوا رسلا         سمر الوجوه فهم من خير الرسل

يقصد بذلك الشاعر مجيء وفد يتكون من مبعوثي ثورة أول نوفمبر لنقل رفات الأمير إلى الجزائر

و من أجمل القصائد التي قيلت في هذه المناسبة قصيدة الشاعر محمد الحريري “دمعة على رحيل رفات الأمير” عبر فيها عن حب كل سوري للأمير و تقديره له كما أشاد فيها بالسيرة العطرة التي طبعت إقامة الأمير في هذا البلد العربي المضياف و الأصيل:

يا رفات الأمير أين الرحيل    فجع القبر, فهو مضنى عليل
ذاب فيه الثرى و ذبت عليه     فعجبنا من منكما المحمول
أنا أخشى أن يرفض القبر تسليمك    و القبر كالرجال نبيل
أنا أخشى و النعش يسري وئيدا     في دمشق أن يعتريه عدول

طبعا لن أعرض كل محاور البحث الذي أعده الكاتب طوال فترة وظيفته كسفير للجزائر في سورية لكن سأعمل جاهدة بتوفيق من الله كي أقدم لكم أجمل ما قيل في ثورة الجزائر علما أن الاختيار سيكون صعبا.

شارك الخبر:

شارك برأيك

‫11 تعليق

  1. والله رائعة يا سوريا وشعبك رائع
    انا عن شخصي كتير معجب بها البلد و ناسها و لهجتهم و سبق و قلت ه الشئ

  2. الشعب السوري شعب مثقف وواعي وحضارته معروفة منذ الاف السنين ..
    وشعبه طيب ما دام لنا منهم اصدقاء عزيزين علينا مثل .. خوليو عسل الجريدة .. قاسيون جبلنا الشامخ الذي لايهزه ريح .. ميمو الصديق الوفي ..
    متيم الحب الذي يعطر الجريدة بحبه وفرفشته … هؤلاء هم السوريون الشهامة
    سمية الله يحفظلكم سوريا وتبقون تتغنون بباقي البلاد العربية

  3. صباحكم مبروك, أهلا بالأخ مصطفى و بك أختي مي, أرجو أنك تعافيت و استرجعت كامل صحتك.
    لقد وعدتك مي و الأخ مصطفى بارسال موضوع عن العراق و أنا إن شاء عند وعدي, فالدكتور عثمان سعدي أنجز نفس العمل الميداني عن الثورة الجزائرية في الشعر العراقي وذلك أثناء مهمته الدبلوماسية كسفير للجزائر في العراق و جمع حصيلة شعرية لا تقل أهمية عن تلك التي جمعها في سورية و لكبار شعراء العراق الحبيب كبدر شاكر السياب و نازك الملائكة و عبد الوهاب البياتي. إنه فعلا عمل ميداني كبير يستحق التعريف به.

  4. شكراً لكِ أختي سمية ،، لا أتوقع أن أقرأ أفضل من هكذا موضوع في هذا الصباح ،، ما بين سوريا والجزائر أكثر من الشعر ،، هو حب متبادل ،، انا كــــسوري أشعر بحب الجزائر لبلدي وانا أبادلهم هذا الحب ،، فكل سوري يذهب الى الجزائر عندما يعود أول ما يقوله هو ” انهم يحبوننا ” ..كما اننا اختلطنا بالأنساب ،، فعائلة الجزائري عائلة معروفة في دمشق ،، وربما هم من نسل الأمير عبد القادر ،، الذي حواه تراب دمشق وتشرّف بجسده الطاهر ،،، أشكرك أختي وبارك الله فيكِ

  5. سكرا سميه كالعاده مواضيعك كلها مجاهده كالمجاهدين الذين تكتبين عنهم
    رحم الله شهداءنا واسكنهم فسيح جنانه

  6. شكرا سمية على هذا المقال الجميل وشكرا لجهود الدكتور عثمان السعدي وأنا أؤيد كلام ميموووووووو بالنسبة للحب والإحترام المتبادل بيننا وبين الشعب الجزائري وبين كل الدول العربية بدون أستثناء بارك الله بك ياأختي

  7. شكرا لك أخي عبد الوهاب
    ميمو, مرامو و نور الشامية: هذا أقل شيء اقدمه لأخوتي السوريين في نورت. بارك الله فيكم جميعا على حسن أخلاقكم و ثقافتكم العالية, للشام مكانة خاصة في قلوبنا. يقول لي والدي دائما لدمشق رائحة مميزة و رمضان فيها غير شكل…علي أن أجرب
    كان هذا الموضوع هدية مني لكم و سأنشر المزيد, بتوفيق من الله
    أخي ميمو, فعلا عائلة الجزائري في دمشق هي من نسب الأمير عبد القادر أو تنحدر من نسب العائلات التي خرجت معه في ساعة العسرة
    حفظ الله تراب الشام و كل وطننا العربي الكبير

  8. عزيزتي الأخت سمية:
    تحية عربية
    لقد كانت لنا صلة معرفة مع السفير عثمان سعدي، أمد الله بعمره وعمرك، أجل لقد قرأت الكتاب مرة واحدة، ولقد استعرته من أحد الشعراء الذين شاركوا في إعداد الكتاب المذكور، والشاعر اسمه عبد الكريم صالح الحبيب، وإني لشديد الإعجاب بهذا الكتاب، لما فيه من روح قومية عربية أصيلة، فشكراً لك أيتها الأخت العزيزة، وصدقاً لقد بحثت عن هذا الكتاب في مدينتي حمص فترة طويلة، ولم أحصل عليه، وإني ممتن لك كثيراً إن بعثت لنا بصورة إلكترونية عنه، أو مكان تواجده…. وعلى كل الأحوال ليس في وسعي إلا شكرك…. كما أرجو المراسلة
    ودمت….
    كريم محمد رسلان [email protected]

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *