كتب عبدالباري عطوان في القدس العربي:
نشعر بالحزن والألم لما يجري حاليا في مصر من مظاهرات تعكس حالة الانقسام والكراهية، تحت عناوين متعددة يدعي كل طرف بصوابية موقفه، ولكن الشعب المصري هو الذي سيدفع الثمن من امنه واستقراره ولقمة عيش اطفاله.
النخبة السياسية المصرية سقطت في فخ التحريض، والنزعات الثأرية، والتدخلات الخارجية، عربية كانت ام اجنبية، وهي لا تدري، في غمرة سيادة الاحقاد، انها تدمر نفسها قبل ان تدمر مصر.
هذه ليست الديمقراطية التي ثار الشعب المصري من اجلها، وقدم اكثر من الف شهيد من ابنائه، وهؤلاء جميعا ليسوا البدائل التي كان يتطلع اليها، لكي تمحو خطــــايا النظام الســابق، وتقوده، اي الشعب المصري، الى الامان والرخاء والعيش الكريم، بعد اربعين عاما من الفساد والقمع والاذلال وسرقة عرق الفقراء والمحرومين والطيبين.
في الماضي كان هناك عنوان واحد للمظاهرات، وهدف واحد للمشاركين فيها، اسقاط نظام فاسد وتقديم رموزه الى العدالة، تعددت العناوين الآن وتنوعت وانقلب رفقاء التظاهرات الى اعداء، ولا نبالغ ان نقول انهم يكرهون بعضهم البعض اكثر من كرههم للرئيس حسني مبارك، او حتى نتنياهو نفسه.
اربعة شهداء ومئات الجرحى سقطوا في اليومين الماضيين فقط، ويعلم الله كم سيكون العدد عندما تلتحم ‘الجيوش’ وتخرج اسلحة المندسين من اجربتها، وتندلع شرارة المواجهات التي يتوقع الكثيرون ان تكون دموية.
الاحتكام الى الشارع، وبالصورة التي نراها ليست له علاقة بالشرعية، والدعوة الى التمرد بالطريقة نفسها لا تمت بصلة الى الديمقراطية، فهذا التجييش في الجانبين يهدف الى تحطيم الآخر، وليس التعايش معه، وهذا يشكل عودة الى الجاهلية الاولى.
‘ ‘ ‘
من تابع مظاهرات الأمس، سواء تلك التي دعت اليها المعارضة، او الاخرى التي حشد لها النظام، يخرج بانطباع بأن البلد يتجه الى الحرب، ولكنها حرب بين ابناء الوطن الواحد، والجينات الواحدة، والهوية الحضارية التي تمتد جذورها الى آلاف السنوات في عمق التاريخ البشري.
فعندما تتوسع الاشتباكات الى اربع محافظات ويسقط القتلى والجرحى بالمئات، وتتعرض مقرات سياسية (الاخوان) الى الحرق، وقبل يومين من الثلاثين من حزيران (يونيو) فهذا مؤشر خطير يثير مخاوف جدية من اننا قد نشهد حمامات دم فعلا.
من الواضح ان كل الاطراف في الحكم والمعارضة تفقد اعصابها، مثلما تفتقد الى العقل والحكمة وضبط النفس، وترفض الآخر، بل وتريد تمزيقه، وتعتبر ان الحسم الوحيد الممكن هو استخدام العنف، سواء كان لفظيا او ماديا، في ظل حالة من الانسداد السياسي، وتحريض اعلامي مقصود تقف خلفه جهات معروفة تريد استخدام حرية الاعلام كذريعة لوأد الثورة المصرية، بل ووأد كل الثورات العربية الاخرى، والعودة بالمنطقة الى مرحلة اسوأ من الديكتاتوريات، مرحلة التفتيت والفتنة الطائفية والعنصرية والفوضى الدموية.
ليس هذا وقت اتهام هذه الجهة او تلك، المعارضة او الحكومة، كما انه لن يفيد مطلقا ان نقول لو ان الرئيس محمد مرسي فعل كذا او ذاك، او ان المعارضة تنازلت او تعاونت.. لا هذا ولا ذاك، الاحداث تجاوزت كل هذا وبتنا امام خيارين، اما الحرب الاهلية او تدخل الجيش.
لم اكن من الذين يؤيدون الانقلابات العسكرية في اي يوم من الايام ، ولكنني لا اتردد لحظة في تفضيل تدخل المؤسسة العسكرية المصرية لحقن الدماء اذا كان هذا هو العلاج الاخير.
‘ ‘ ‘
المعارضة المصرية التي هتفت بأعلى ما في حناجرها من صوت بسقوط حكم العسكر عندما استولى المجلس الاعلى للقوات المسلحة على الحكم، بعد اسقاط حكم مبارك اثناء المرحلة الانتقالية، ستكون سعيدة بهذا التدخل لاطاحة حكم الرئيس مرسي بالدبابات بعد ان عجزت عن اطاحته عبر صناديق الاقتراع، ولكنها لن تحتل مكانه، ربما لعقود قادمة، ان الجيش اذا ما مسك زمام الامور لن يعود الى ثكناته مثلما كان الحال قبل عامين، وسيعلن حالة الطوارئ فورا، وسيجد تأييدا قويا من الشعب.
النخبة السياسية في السلطة والمعارضة معا لم تدرك ان التراشق بالمظاهرات، سيؤدي حتما الى انهيار الدولة المصرية ومؤسساتها، وسيحطم ما تبقى من هيبتها، وهذه نتيجة مأساوية لن تفيد احدا، وستؤدي الى انتكاسة للتحول الديمقراطي والاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المنطقة بأسرها وليس مصر فقط، قد تستمر لسنوات.
تغنينا كثيرا بالثورة المصرية وسلميتها حتى بحّ صوتنا، واعتبرناها نموذجا يجب ان يحتــــذى في المنطقة بأسرها، ولكن يبدو ان هناك من يريد عكس ذلك، ونجح في مخططاته الجهنمية بامتياز.
Twitter:@abdelbariatwan

شارك الخبر:

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *