كتبت فوزية سلامة في الشرق الاوسط:

قرأت اليوم جانبا مما كتب عن العقل الباطن، وببساطة شديدة فهمت أنه الغربال الذي يغربل كل المعلومات والانطباعات والتجارب التي تدخل من بوابة الوعي. وفهمت أيضا أن العقل الباطن صديق يجب عدم الاستهانة بصداقته. وظيفته الأساسية هي الغربلة وتصنيف المعلومات حسب الأهمية والأولوية التي تؤمن للعقل الواعي السلامة وشيئا من الراحة من زحمة المعلومات.

أما دافعي للتعرف على وظائف العقل الباطن فقد بدأ منذ أيام حين زرت المستشفى الذي أكملت فيه علاجا مطولا على مدى عام. خلال العام كنت أزور المستشفى يوميا. ومعنى ذلك أنني يجب أن أعرف طريقي إلى جميع الأقسام كما أعرف طريقي من غرفة المعيشة في البيت إلى المطبخ مثلا.

في صباح ذلك اليوم ما إن وجدت نفسي في بهو الاستقبال في المستشفى حتى اضطررت للسؤال عن قسم الأشعة. وحين جلست انتظارا لدوري أدركت أنني ما إن أغادر المبنى حتى تتلاشى ذكرى المستشفى تماما بأقسامه وردهاته ولون الكراسي والوجوه والأصوات التي سمعت. وعليه قررت أن أسأل الطبيب ما الذي جرى لذاكرتي.

جاءتني إجابته مطمئنة حين قال إن عقلي الباطن هو السبب. فهو ينسيني جغرافيا المستشفى لكي يوفر عليّ ذكرى مشاعر الخوف والإحساس بالألم والرحلات الإجبارية اليومية إليه. ثم ختم بقوله إن العقل الباطن هو صديق يجب الاعتزاز بصداقته. فهو يحتفظ بالذكرى الطيبة ويغربل الذكرى السيئة ويحتفظ بها في خانة بعيدة. ومهما طال الزمن تظل الذكريات الحلوة حاضرة تسعدنا في لحظات معينة. وعلى سبيل المثال، عند اللزوم يقفز بك الزمن إلى الوراء غير معترف بالحدود أو السدود أو الجغرافيا لكي يطرد هجوما شرسا على إحساسك بأن دنياك بخير، فتنتقل في غمضة عين من لندن إلى القاهرة، وإلى فناء المدرسة حيث المرح والفرح بعام دراسي جديد، وكتب مصورة ودفاتر مدرسية وريشة ذات سن رفيع ودواة الحبر في مكانها لاستعمالك في حصة الخط. وفي لمح البصر تتذكر أنك عشت زمن الحبر والدواة قبل اختراع أقلام الحبر الجاف. وفجأة ترى بعيني ذاكرتك دواة حبر ماركة بيليكان. وبعد الحبر والدواة تتذكر أنك عشت زمن ما قبل الكومبيوتر وترى بعيني خيالك الآلة الكاتبة التي أهدتها لك المدرسة. ثم تتذكر المذياع العتيق قبل وصول زمن التلفزيون. ومسجل الصوت ماركة غرونديغ الذي توسط صالة الاستقبال في البيت كما لو أنه قرد من فصيلة الأورانج أوتانج.

كنت أسير بخفة في اتجاه محطة المترو فتذكرت مترو القاهرة، ومن مترو القاهرة إلى الطائرة التي حملتني إلى لندن. لم أكن ركبت طائرة إلا يوم سفري إلى لندن للدراسة. والحقيقة أنني لا أذكر هل كانت ذات محركات أو طائرة نفاثة لأنني لم أعد أذكر سوى الدهشة الفاتنة حين نظرت من نافذة الطائرة وتصورت أن الطائرة تسبح فوق بساط ممدود من القطن الناصع المندوف.

عشت ذلك كله على مدى سنوات طوال، وما زالت الذكرى تسعدني؛ فلا يمكن أن تخيفني ذكرى مستشفى جربت فيه الخوف والألم.

قبل أن تكتمل رحلة العودة إلى البيت كان مبنى المستشفى وملحقاته قد تضاءل وتراجع وحل محله بشر وسرور بالحياة. والشكر للعقل الباطن. عرجت على السوبر ماركت لشراء السبانخ لإعداد العشاء؛ فهل كان ذلك بإيعاز من العقل الباطن أم من العقل الواعي؟ فالسبانخ من الخضراوات الفاعلة جدا في محاربة السرطان، وإلى جانب ذلك فهي أيضا من الخضراوات المفضلة عند زوجي وابنتي. وهنا تضافرت جهود الوعي واللاوعي في انتشالي من براثن الخوف من المجهول أولا بنسيان المستشفى مؤقتا في خضم ذكريات الطفولة والصبا، ثم باختيار السبانخ دون سائر الخضر المعروضة في السوبر ماركت.

بعد العشاء ابتسمت في سرور حين قال لي زوجي: عاشت إيدك.

شارك الخبر:

شارك برأيك

‫4 تعليقات

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *