نجح “محمد بن عبد الله بن طاهر” في اصطياد هذه المقولة في لحظة مجردة فأرسلها مثلاً:

“ليس يفلح أحدٌ من العرب إلا أن يكون معه نبيٌّ ينصره الله به”!

كانت هذه العبارة هي النغمة الأولي في هزيم الرعد الذي اندلع بعد قرون تحت اسم “الدولة العثمانية”، ذلك أنه قالها عندما بلغة انتصار الأتراك علي قائد عربي، ولا أتكلم عن أشخاص إنما المكان، “تركيا” لا العثمانيين فالغموض يحيط بأصولهم..

آنذاك، كان تنامي وطأة الأتراك يبدأ من جرّاء رؤية سياسية خاطئة استراتيجياً تبناها “المعتصم” وأخلص لها دائمًا دون أن يدور بباله أنه بذلك كان يزرع ألغامًا سوف تفجر الدولة العباسية من الأمام ومن الخلف ومن الجانب الآخر!

لقد استبعد “المعتصم” العرب من إدارة الدولة واستعان بغير العرب، لكن، لدهائه وفروسيته ظل خطرهم نائمًا حتي رحل وورث ” الواثق بالله” مقعده وأكبر أخطائه، فبدأ ترهلهم الذي اكتمل في خلافة “المتوكل” إلي حد تخلو معه سجلات تلك المرحلة من الأسماء العربية أو تكاد، إنما، “وصيف”، “بغا”، “باغر”، وغابة من الأسماء المستوردة!

لقد هيمنوا علي مفاصل الدولة وأعصابها حتي أصبح الخليفة مجرد لقب مطليٍّ بظلٍّ باهتٍ من اللاشئ، وحتي قتلوا “المتوكل” ووضعوا ابنه “المنتصر بالله” مكانه، حينئذٍ، وحتي سقوطها الصريح، صارت الدولة العباسية دولة فاشلة أو تكاد!

ليس الأتراك وحدهم، الديلم أيضًا، والفرس، وصاحب المقولة “محمد بن عبد الله بن طاهر” ينحدر من عائلة فارسية لتحولاتها التي لا تصدق قصة تعكس جسامة ما يمكن أن يحدثه الصراع بين الأجنحة السياسية من انقلابات طبقية تصب دائمًا في صالح المفردات البشرية الأكثر انحطاطاً..

كان جده “زريق بن ماهان” من موالي “طلحة الطلحات”، الأمويُّ الهوي، وأجود أهل البصرة في زمانه، وابن “عبد الله بن خلف” كاتب “عمر بن الخطاب”، وأمير “سجستان” الذي قال الشاعر في رثائه:

رحم الله أعظُماً دفنوها / بسجسْتان طلحة الطلحات

عندما تغير قانون الحياة بتغير النظام الذي يحكم تمكن أبناء “زريق”، بمباركة العباسيين، من تأسيس الدولة الطاهرية في “خراسان”، أول شكل للحكم المستقل في الإسلام، أو هكذا أظن، وأصبحوا ملوكاً يفد إليهم العرب للتسول!

لا أعرف لماذا فرض الكلام عليَّ بدايته بهذا الشكل، لعله ذلك الالتحام الحميم الآن بين ما هو ديني وما هو سياسي، وبين الماضي والحاضر وما يغرِّد لي به البومُ عن بشاعة وجه القادم!

وكما أن نشأة الدولة العثمانية ملتبسة كذلك سقوطها، لقد كان سقوطها في عشرينيات القرن الماضي خبرًا لمبتدأ يعرف في أدبيات أوروبا بمعركة “ليبنتو” البحرية في القرن 16، عندما عقد العثمانيون العزم علي احتلال “قبرص” فكان هذا سبباً كافيًا لاندلاع مخاوف البابا “بيوس” الذي أرسل كتابًا إلي ملك “إسبانيا”، الكاثوليكيِّ الأكثر تزمتاً، قال فيه:

“لا توجد دولة في العالم المسيحي يمكنها أن تقف بمفردها في مواجهة الدولة العثمانية، فمن الواجب على كافة الدول المسيحية أن تتحد لكسر الغرور التركي”!

وكسروه!

من الجدير بالذكر أن “سرڤانتس” مؤلف رواية “دون كيشوت” كان أحد الأسرى المسيحيين في “ليبنتو”!

لكن الأتراك رمَّموا جراحهم سريعًا، مع ذلك، كان الأوربيون قد كسروا حاجز الخوف ولمسوا عمق الدولة التي ليس من الصعب أن تهزم كما كانوا يعتقدون، كما ظل الائتلاف الذي شكَّله “بيوس” قائمًا حتي أجهزوا علي “رجل آسيا المريض”، وما زال قائمًا!

لقد انسحبت الدولة العثمانية إلي ركنها بعد أن نحتت في ذاكرة “أوروبا” أفكارًا سوداء، ولقد لعب العرب في سقوطها دورًا كبيرًا، وكل العائلات التي تحكم الآن الخليج ما هي إلا صديً لتلك المؤامرة، وما أشبه الليلة بالبارحة، ذلك أنهم، عندما استفحل أمر الرجل الذي أعطت إنجازاته “تركيا” وعدًا بدولةٍ محوريةٍ في العالم الكبير، يتآمرون الآن أيضًا للإجهاز علي هذا الوعد!

لا شك أن طعنة في الصميم وجهت إلي الظاهرة الأردوغانية في الانتخابات الأخيرة، لا شك أيضًا أن “أردوغان” ينحسر وتسيجه المتاعب التي سوف تتفاقم بمتوالية هندسية، النقطة الدالة في هذا الاتجاه هي شماتة دول لا تعرف الديمقراطية فيه لمجرد أنه فشل في إحراز أغلبية تمكنه من استئناف مشروعه وتصميم جسور “تركيا” الجديدة!

إنها محنة الدهاء حين يضيع، فلا شك أن “أردوغان” كان يتعاطي مؤخرًا بخشونة أخرجته من السياسي إلي الديني في وقتٍ بلغ عنده حرج المشهد ذروته، مقارباته المتعلقة بسوريا تحديدًا، لا شك أيضًا أن لشيوخ الإمارات نبض في كل ما حدث وكل ما سوف يحدث!

عندما تتأمل كيف يتصرف أولاد “زايد” سوف تتعب كثيرًا في التمييز بين البشر والشياطين، بل يصبح جوهر الإنسان نفسه محلاً للشك، تخيل، عائلة أفرادها لا يتجاوزون العشرات هم دائمًا كالأوتار المشدودة لتصميم الخطط التي يرسمونها لحماية عرشهم بدماء الملايين وحرياتهم وثرواتهم، وكلما ازدادت مشاعر الكراهية تجاههم من المحيط إلي الخليج سمكًا يزدادون تهورًا!

فهل تمكن الغرور من زند “إسرائيل” الأكثر إخلاصًا وانصياعًا وغباءًا إلي هذا الحد؟

أياً كان عمق الكابوس، لقد انحسر “أردوغان” وهذا ليس كل شئ، فانحساره أول خطوة في الممر نحو عرقلة “تركيا” وانحسارها، كيف؟

لا أظن مسلمًا لم يسمع بـ “خيبر”، و لـ “تركيا” عند المسيحيين رمزية تتحد تمامًا بتلك الرمزية التي لـ “خيبر” عند اليهود، لكن الدول المعبأة بالحقد علي “تركيا” أكثر من غيرها، وتحرس أكثر من غيرها أوجاع الماضي هي دول البلقان، هذه الدول – بشكل أكثر عمقاً “صربيا” التي أضاءت للعالم بالمجازر التي ارتكبتها في حق مسلمي “البوسنة” ما يمكن أن تصنعه إسقاطات الماضي من الشر- هي العدو الذي تباشر “الإمارات” الآن برعاية إسرائيلية تربيته والعمل علي بدانته وادخاره لعرقلة “تركيا” عند الحاجة!

وفي سياق متصل، “صربيا” هي الدولة التي منحت “محمد دحلان” وعائلته جنسيتها!

لماذا؟

محمد رفعت الدومي

شارك الخبر:

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *