تعوَّدتُ ألا أحترم كلَّ من يحترم الانطباعات الأولي، ولا كل من يتبني أفكارًا مسبقة بشكل متحيز عن أي شئ فقط لأن الأغلبية تتزاحم حول صحتها، فالحقيقة ليست كما تبدو أحيانًا، وليست هي الإجماع علي الدوام!

علي سبيل المثال، الحمار ليس غبيَّاً أبدًا، إنما وظائف إدراكه تعمل علي نحو أكثر لياقة من عقول الكثير من البشر، يعرف هذا جيدًا كل من تعامل مع هذا الكائن الوديع من مكان قريب، القرويون علي وجه الخصوص، فهو يستطيع أن يتذكر تفاصيل الطرقات برحلة واحدة وإن كانت في الظلام، كما أن ذاكرته تستطيع أن تلتقط حدود الأرض التي يملكها صاحبه بدقة بالغة وتحفظها كأي رجل مساحة حقيقي، لذلك، عندما يتجاوز هذه الحدود إلي حدود الجيران ليسطو علي بعض الحشائش تستطيع العيون ببساطة الماء أن تضبط ارتباكه والذعر في نظراته!

رجم الحمار بالغباء في عهدة هذه الآية:

“مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين”..

أو في عهدة الذين لا يحبون السباحة في الأعماق فأولوا الآية من علي الساحل تأويلاً ليس كله صحيحًا، وبطبيعة الحال، سرعان ما اتكأ الشعر علي خاصرة تلك التأويلات واحترم مضمونها السطحي حتي بات من الصعب تبديده، وظهرت أبيات كثيرة في الهجاء تنبض بجلد الحمار بالغباء، كهذا التعريض الذكي بـ “زياد بن أبيه” من قبل شاعر خبيث استغل أن “أبا زياد” اسم من أسماء الحمار فقال:

زيادٌ لستُ أدري مَنْ أبوهُ/ ولكنَّ الحمارَ أبو زياد..

الغريب، أن هذه النظرة السفلية للحمار حكر علي كوكب الوطن العربي فقط، والأغرب، أن الحزب الذي الآن يدير كوكب الأرض شعاره الحمار!

بدأت قصة ارتباط الحزب الديمقراطي الأمريكي بالحمار عام 1828، عندما اختار “أندرو جاكسون” المرشح الديمقراطي لخوض انتخابات الرئاسة في ذلك الوقت “لنترك الشعب يحكم” شعارًا، وكما يحدث في مثل هذه الظروف علي الدوام، اندلعت سخرية الجمهوريين من الشعار ووصفوه بالرخيص، كما وصفوا مرشح الديمقراطيين بـ “أندرو جاكاس” التي توازي في درجة من درجات الإنجليزية “أندرو الحمار”، تعليقاً علي هذا، اختار “جاكسون” من جانبه حمارًا رماديَّ اللون وألصق على ظهره شعار حملته، وقاده وسط القرى والمدن المتاخمة كلون من ألوان الترويج لبرنامجه الانتخابي ضد منافسه الذي كان نخبويَّاً يفضل الوقوف علي مسافة بعيدة من العوام!

من الجدير بالذكر أن تصرف “أندرو جاكسون” لم يكن كافيًا لإلصاق الشعار بحزبه لولا ضلوع رسام الكاريكاتير الشهير “توماس ناست” في الأمر، عندما نشر “ناست” في مجلة “هاربر” الأسبوعية رسمًا ساخرًا بعنوان “الحمارُ حيٌّ يرفس أسدًا ميتاً” في وكز ساخر للمواقف الإرتجالية المتشنجة للديمقراطيين التصق رمز الحمار بالحزب الديمقراطي ربما إلي الأبد!

من الجدير بالذكر أيضًا، أن “ناست” أيضًا عندما رسم فيلاً ضخمًا مكتوبًا علي جسمه “الصوت الجمهوري” ألصق بالحزب الجمهوري شعار الفيل، أيضًا، ربما إلي الأبد!

هناك أيضًا من مكان أشدَّ قربًا حزب الحمير الكردستاني الذي كان قائمًا حتي وقت قريب!

وللحمار في التراث حضور وافر وأخبار بعضها قادرٌ علي استقطاب الضحكات كهذا الخبر:

كان “محمد بن عبد الله بن نُمير الثقفي” يعشق “زينب بنت يوسف”، فقال فيها ذات يوم شعرًا عندما بلغ “الحجاج” أقسم أن يوقع به، لكن، عندما ابتلعت القصيدة المسافات ووصلت بلاط “عبد الملك بن مروان” كتب إلى الحجاج:

– قد بلغني قول الخبيث في زينب، فالهُ عنه وأعرض عن ذكره، فإنك إن أدنيته أو عاتبته أطمعته وإن عاقبته صدقته!

عندما أدرك “النميري” أن خلاصه من بطش “الحجاج” في عهدة “عبد الملك” وحده هرب إليه واستجار به، فقال له عبد الملك:

– أنشدني ما قلت في زينب، فأنشده:

تضوع مسكاً بطنُ نعمان إذ مشت/ به زينبٌ في نسوةٍ عطرات

يُخمِّرن أطرافَ البنان مِنَ التقى/ ويخرجن جُنْح الليل معتجرات

فلما انتهى إلى قوله:

ولما رأت ركبَ النميريِّ راعها/ وكنَّ من أن يلقينه حذرات

سأله “عبد الملك”:

– وما كان ركبك يا نميري؟

فقال:

– أربعة أحمرة لي كنت أجلب عليها القطران؛ وثلاثة أحمرة تحمل البعر!

كان هذا هو كل ركب الشاعر الطيب الذي روَّع حبيبته وأضحك “عبد الملك” حتى استغرب ضحكاً، ثم قال له:

– لقد عظمت أمرك وأمر ركبك!

وكتب له إلى “الحجاج” أن لا سبيل عليه!

وأشهر الحمير في التاريخ “حمار عزير”، وسوف لا أضغط علي هذا الحمار لأنه حمارٌ من الصعب العثور علي مثله إلا في الأساطير أو أدب الرحلات، تفاصيل القصة نفسها تحتاج إلي عقول خاصة لامتصاصها، وسوف لا أتوقف أيضًا عند حمار “جحا” أو “حمار الشيخ الذي وقف في العقبة” فللخيال الشعبي، وللفراغ، في صناعتهما نبض أكيد!

وهناك أيضًا الحمار الذي ركبه “يسوع” عندما ذهب إلي أورشليم:

“لاَ تَخَافِي يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي جَالِسًا عَلَى جَحْشٍ أَتَانٍ”

ذلك الالتباس في الآية جعل الكهنة، كعادة الكهنة، ينزلقون بإسراف في شروخ الحادثة الجانبية ويتجاهلون مركزها، لقد اختلفوا حول هل هو جحشٌ وأتان أم جحشٌ فقط ولم يضغطوا عنيفًا علي تلك التجليات في دخول “يسوع” أورشليم، ولا أدري ما الذي سوف يتوقف عن الدوران إن كان “يسوع” قد ركب جحشًا أو حمارًا، لكن، أكد بعضهم أن الحادثة كانت تحقيقاً لنبوءة “زكريا”:

(هوذا ملكُكِ يأتي إليكِ وهو وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان) “زك 9 : 9”

والنبوءة واضحة، لقد كان “يسوع” يركب علي حمار وعلي جحش في نفس الوقت، وكل من رأي عربة كارو بحمارين ورأي كيف يكون الحماران قريبين جدًا إلي حد الالتصاق سوف لا يجد غضاضة في أن يصدق أن “يسوع” كان يمتطي ظهر الحمارين معًا في نفس الوقت، ربما، ليروِّع اليهود، تمامًا، كـ “ركب النميريِّ، إن لم يكن الأمر هكذا، فلا أقل من أن يكون دخل أورشليم علي عربة كارو، ما المانع؟!

وهناك “حمار أبى الهذيل” شيخ المعتزلة في عصر “المأمون”، ذاك الحمار صار مضرب الأمثال لكل كلام يقال في غير موضعه أو وقته لهذا السبب:

لقد زار أبو الهذيل بلاط “المأمون” فاحتجزه ليأكل معه، وعندما وضعت المائدة قال “أبو الهذيل” قبل أن يشرع في الأكل:

– يا أمير المؤمنين، إن الله لا يستحى من الحق، غلامى وحمارى بالباب!

فقال:

– صدقت يا أبا الهذيل!

ودعا حاجبه وأمره أن يعتني بحمار أبي الهذيل وغلامه!

و “حمار طياب السقاء” الذي جعل منه شعر “أبي غلالة المخزومي” مثلة وعارًا بين الحمير، ومن شعره فيه:

وحمارٌ بكت عليه الحمير/ دقَّ حتى به الذبابُ يطيرُ

كان فيما مضى يقومُ بضعفٍ/ فهو اليوم واقفٌ لا يسيرُ

كيف يمشى وليس يعلفُ شيئاً/ وهْو شيخٌ من الحمير كبيرُ..

وعلي النقيض من “حمار طياب” هناك حمار “أبي سيارة” الذي ظل يحمل عليه الناس من مزدلفة إلي مني أربعين سنة، وهذا أمر غريب أبي ذهن “الجاحظ” أن يمتصه كما قيل له، فردده وتبرأ من صحته أو يكاد، قال:

– أعمار حمر الوحش تزيد على أعمار الحمر الأهلية، ولا يعرف حمار أهلى عاش أكثر وعَمَّر أطول من عير “أبى سيارة”، (فإنهم) لا يشكون أنه دفع عليه أهل الموسم أربعين عامًا!

كما أن آخر خلفاء بني أمية كان يلقب بـ “مروان الحمار”، وقتل في مصر!

ومصر مشهورة بكثرة الحمير، ربما، لهذا، خصص “الثعالبي” في الموصوف والمنسوب مكانًا لائقًا لـ “حمير مصر” التى لا تخرج البلدان أمثالها، والتي، كان الخلفاء لا يركبون سواها فى دورهم وبساتينهم، كما كان “المتوكل” يصعد منارة “سر من رأى” على حمار مريسى، ودرج تلك المنارة من خارج وأساسها على جريب من الأرض وطولها تسع وتسعون ذراعًا، و “مريس” قرية بمصر إليها ينسب “بشر المريسى”!

وآخر نجم لمع في سماء الحمير هو “حمار المطار”، والأضواء حظوظ، ولكي أكون منسجمًا مع المنطق سوف أسميه “حمار مكيدة المطار”، فلا شك أن الحادثة غريبة بالقدر الذي يكفي ليوقظ في العقول شدوًا مريبًا، ولا شك أن لها دلالاتها التي تعكس حدة الصراع بين أجنحة الثورة المضادة، لا شك أيضًا أنها تحمل في طياتها نذرًا بيضاء لكل المقهورين!

سوف ينتصر الحلم بالتأكيد الزائد عن الحد، وسوف تعاود الحرية اكتشاف مصر مجددًا، ليس فقط لأن شعبًا استطاع أن يرج الرعب في قلوب جلاديه في ثورة يناير يمكن أن يسمح لأي أحد أن يُربِّي أعماقه بالعُصيِّ مرة أخري، بل لأن ما يحدث الآن في مصر ليس طبيعيَّاً إنما محاكاة للطبيعة، السيسي يدرك هذا أكثر من أي شخص آخر، يدرك أنه يؤدي دور ثانويَّاً تحت الأضواء الرئيسية في مسرحية أبطالها الرئيسيون هم الذين يسكنون الأدوار الثانوية ووراء الكواليس وجمهورها هم البالون وأصحاب الحد الأدني فقط!

لكن السؤال الأشد عسرًا الآن أيهما سوف يسبق الآخر لاكتشاف مصر، الحرية أم التقسيم؟

ذلك أن ثمة خبرين يلتحمان التحامًا صريحًا تجاوزا الآن أياماً دون أن يغوص في النذر السوداء التي يحملانها الكثيرون، لكن القلائل.. القلائل فقط، حدقوا النظر في امتداداتهما من علي الساحل فقط بأذهان مشوشة، هذان:

– الولايات المتحدة تدرس توجيه ضربة لـ “سيناء”..

– اندلاع الحديث عن “داعش” وولاية الصعيد في إعلام السيسي!

هل انعقد عزم الغرب أخيرًا علي تنشيط السيناريو القديم لتقسيم مصر إلي ثلاث دول؟

هل؟

محمد رفعت الدومي

شارك الخبر:

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *