استلقى “د عبو ل” على الأرض، وشرع في تقويس ظهره ببراعة لاعب ” يو غا”..وظل يتدرج في تقوّسه شيئاً فشيئاً، حتى تم له في النهاية أن يُطبق رجليه على فمه .
وحالما استكمل شكله الدائري، فتح شدقيه بشهية بالغة، ثم ابتلع نفسه .
***
ولأن العالم أصبح قرية صغيرة، فإن الخبر وصل إلى القطب الشمالي، حتى قبل أن يصل إلى “دعبول” نفسه !
جاءت، على الفور، وفود من شتى أنحاء العالم، واكتظ بيت دعبول على اتساعه بالصحافيين وعدسات التصوير وكاميرات التلفزيون وميكروفونات الإذاعات ولجان الحقوق المختلفة، حتى دعت الحاجة إلى تعطيل حركة المرور..ذلك لأن بيت دعبول هو رصيف الشارع العام .
كانت أنظار العالم كلها مصوبة إلى دعبول..وكان دعبول كلّه عبارة عن كرة مبهمة راقدة بسكون وسط الضجة العارمة .
***
صرخت مندوبة الجمعية العالمية للدفاع عن حقوق الأحذية :
من حق هذا المتوحش أن يفعل بنفسه ما يريد، لكن ليس من حقه أن يبتلع الأحذية المسكينة..إنني أطالبه، باسم جمعيتنا الموقرة، بأن يطلق سراح الفرد تين حالاً..من غير نقصا ن نعل أو مسمار .
***
وفي تلك الأثناء أصدر صندوق النقد الدولي احتجاجاً شديد اللهجة على هذا العمل الوحشي الجبان..وقال ناطق طلب عدم ذكر اسمه أن وراء احتجاج الصندوق أسباباً تنافسية، لكنه لم يُعطِ توضيحات أكثر .
***
وأصدر رئيس جمعية الدفاع عن حقوق الأزرار بياناً استنكر فيه العمل البربري الذي قام به دعبول، وركز على ضرورة إنقاذ الأزرار بأسرع وقت ممكن، كما ناشد الضمير العالمي الوقوف وقفة حازمة بوجه مثل هذه الأعمال اللا مسئولة . وختم بيانه بالقول : إننا نحترم رغبة هذا الدعبول في ابتلاع قميصه وبنطلونه، بل وحتى حذائه..لكن ما ذنب هذه الأزرار الصغيرة المغلوبة على أمرها، والتي لا تستطيع النطق أو الدفاع عن نفسها بأية وسيلة ؟!
***
وفي كوالا لمبور..أعدمت السلطات رجلاً حاول أن يقلِّد دعبول..وقال مسئولون إنَّ هذا العمل يُعطي صورة بشعة للغربيين عن تخلّف سكان آسيا، وذلك حين يشاهدون واحداً منا وهو يأكل نفسه دون استعمال الشوكة والسكّين !
***
وأدلى مندوب جمعية الدفاع عن المصارين بحديث لإذاعة مونت كارلو، قال فيه إن جمعيته تندد بهذا العمل الآثم..وتطالب دعبول بالخروج حالاً من مصارينه الدقيقة والغليظة على حد سواء .
ومما جاء في الحديث قوله : إنني لم أرَ في حياتي كلها مثل هذه القسوة..ولا أدري كيف تأتّى لهذا البغل أن يخنق هذه المصارين الرقيقة بحشر نفسه فيها ! هل يظن نفسه قالباً من “الآيس كريم” ؟!
***
وناقش البيت الأبيض، في جلسات مطوّلة ما سمّاه ب” دابولز سيتيويشن”..وحذّر من احتمالات أن تعطل هذه المسألة مسيرة السلام في الشرق الأوسط..وأنحى باللاّئمة على بكين، كما حذّر إيران من مغبّة اللعب بالنار .
وفي الوقت نفسه أصدر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بياناً أكّد فيه أن “بلعة دعبول” تعتبر تهديداً صارخاً لأمن إسرائيل .
***
وارتفع سعر الدولار إلى أعلى معدّل له منذ سبع سنوات، فيما انخفضت أسهم نفط بحر الشمال إلى أدنى معدل لها، ولم تتوفر على الفور أية معلومات عمّا إذا كان لقضية دعبول تأثير مباشر في هذا الشأن .
***
وأدلى مندوب لجنة الدفاع عن حقوق الأقمشة بتصريح قال فيه : لا يهمنا نوع قماش قميصه أو بنطلونه..إنها مسألة مبدأ بالنسبة لنا، لا فرق إن كان قميصه من الحرير أو من الخيش..كلُّها في النهاية، أقمشة بكماء ضعيفة لا تحسن الدفاع عن نفسها..وعليه فإننا نطالب هذا الدعبول الأجرب بالإفراج عن قميصه وبنطلونه فوراً .
إن أنظار العالم تراقب معنا، بقلق شديد، معاناة هذه الأقمشة المرتهنة في جوف هذا الأحمق .
***
وأعلن أكثر من فصيل عربي معارض مسؤوليته عن بلع دعبول لنفسه، دون أن يتعرّض أيٌّ منها إلى مسألة بلع الأموال من أيّة جهة كانت..فيما نفت جميع الحكومات العربية أن يكون لها أي دور في مثل هذه(البلعة) .
وعززَّ هذا النفيَ تصريح لدبلوماسي غربي(رفض فقدان عمولاته) حيث قال أن خبرته الطويلة في الشؤون العربية تجعله يعتقد بأن هذا النوع من البلع غير متعارف عليه رسمياً لدى جميع حكومات المنطقة .
***
وأعربت الهيئة الدولية للدفاع عن حقوق(البنكرياس)عن قلقها البالغ على مصير الغدّة المسكينة، واتخذت بالتعاون مع حركة الدفاع عن حقوق(الأنزيمات)إجراءات فورية لتقديم شكوى عاجلة إلى منظمة(الفيفا)على اعتبار أن دعبول في شكله الكروي الراهن، يدخل ضمن مسؤوليتها .
***
وفيما كان العالم يتا بع هذه القضية بذهول وترقّب وقلق..بدا فجأة، أن كرة دعبول قد أخذت تتمدّد..
وعلى حين غرّة، انطلق منها صوت صاعق أقرب ما يكون إلى(تفوووو)..ثم استوى دعبول قائماً على قدميه حافياً عارياً !
بهت الجمهور الغفير..ولمعت فلاشات أجهزة التصوير، وتراكض مندوبوا وسائل الإعلام لتسجيل صورة إفراج دعبول عن نفسه..لحظة بلحظة .
زمجر دعبول : يا أولاد الكلب المحترمين…ما أنا إلاّ جائع ،عارٍ ،مشرّد ،عاطل عن العمل..فماذا أفعل سوى أن آكل نفسي، لأكون أنا طعامي وأنا بيتي ؟!
إنني ضحيّة كل هذه الجهات التي انكرت واستنكرت واحتجت ونددّت ونفت وأعلنت وادّعت وحذّرت، في الوقت الذي كان فمي مغلقاً بجسمي، ولا قدرة لي على الشكوى أو نفي ألا تها مات .
لقد تشرّفت، هذا اليوم، برؤية منظمات للدفاع عن حقوق كل شيء في هذه القرية الصغيرة..وها أنتم ترون أن الأحذية بخير، والأقمشة بخير، والمصارين بخير، والبنكرياس بخير، وإسرائيل بخير..وأنا الوحيد الذي ليس بخير..فلماذا لا أرى، وسط كل هذه القيامة، منظمة واحدة للدفاع عن حقوق دعبول ؟!
ستقولون، يا أولاد الكلب المحترمين، إنَّ الضغط الدولي قد أجبرني على الإفراج عن جسمي .
لا والله .. إنني،ببساطة شديدة، تقيّأت نفسي قَرَفاً من هذا العالم !
***
تقول أنباء غير مؤكّدة إن السلطات أجبرت دعبول على ابتلاع نفسه..عقوبة له لوقوفه عارياً وسط الشارع..الأمر الذي يعتبر خدشاً للحياء العام !

 

 

 

 

*أحمد مطر *

شارك الخبر:

شارك برأيك

‫24 تعليق

  1. الرواية الشعرية عند احمد مطر اكثر ابداعا من روايته او حديثه النثري العادي , اسمعوا لقصة له عن عباس اليقظ الحساس !

    عباس وراء المتراس،
    يقظ منتبه حساس،
    منذ سنين الفتح يلمع سيفه ،
    ويلمع شاربه أيضا، منتظرا محتضنا دفه،
    بلع السارق ضفة،
    قلب عباس القرطاس،
    ضرب الأخماس بأسداس،
    بقيت ضفة
    لملم عباس ذخيرته والمتراس،
    ومضى يصقل سيفه ،
    عبر اللص إليه، وحل ببيته،
    أصبح ضيفه
    قدم عباس له القهوة، ومضى يصقل سيفه ؛
    صرخت زوجة عباس:
    ضيفك راودني، عباس ،
    قم أنقذني ياعباس،

    أبناؤك قتلى، عباس،
    عباس ــ اليقظ الحساس ــ منتبه لم يسمع شيئا ،
    زوجته تغتاب الناس
    صرخت زوجته : “عباس، الضيف سيسرق نعجتنا،
    قلب عباس القرطاس ، ضرب الأخماس بأسداس ،
    أرسل برقية تهديد،
    فلمن تصقل سيفك ياعباس؟
    وقت الشدة
    إذا، اصقل سيفك ياعباس

    عباس يستخدم تكتيكاً جديداً

    عباس شد المخصرة

    ودس فيها خنجره

    واستعد للجولة المنتظرة

    اللص دق بابه

    اللص هدّ بابه

    وعابه وانتهره

    يا ثور أين البقرهْ؟

    عباس دس كفه في المخصره

    واستل منها خنجره

    وصاح في شجاعة:

    في الغرفة المجاورة

    اللص خط حوله دائرة

    وأنذره

    إياك أن تُجاز هذي الدائرهْ

    علا خوار البقرة

    خفت خوار البقرة

    خار خوار البقرة

    ومضى اللص بعدما قضى لديها وطره

    وصوت عباس يدوي خلفه

    فلتسقط المؤامرة

    فلتسقط المؤامرة

    – عباس:

    والخنجر ما حاجته؟

    – ينفعنا عند الظروف القاهرة

    – وغارة اللص؟

    – قطعت دابره

    ألم تشاهدوني وقد غافلته

    واجتزتُ خط الدائرة!

  2. دعبول الضحية في نظر نفسه هو دعبول المجرم في نظر العالم اجمع ومنظماته الحقوقية ..فالإنسان عندنا محظور عليه حتى ان يأكل نفسه اذا جاع لان نفسه ليست ملكا له .
    هذا هو أحمد مطر لا يحرمنا من تجرع مرارتنا معه ومرارته معنا.
    شكرا مامون على الاختيار ،قد لا يكون هذا كافيا لتشفي غليلك وتعبر عن لوعتك ولكن ان تجد شخصا ما عبر بدلا عنك ذات يوم قد يبث فيك عزاء ان هناك من ادرك ما تعاني انت وكل الشعب السوري.
    نسال الله العظيم ان يفرج كربكم ويزيح همكم وينشر عليكم سلاما منه وأمنا

  3. نفوس حيوانيــــة

    يقول ابن القيم :

    فمنهم : من نفسه سبعية غضبية : همتـه العــدوان على الناس وقهــرهم .

    ومنهم : من نفسـه فأريـة .فاسق بطبعـه ، مفســــد لما جــــاوره .

    ومنهم : من طبعه طبع خنزيـــر .يمر بالطيبـــات فلا يلوي عليها ، فإذا قام الإنسان من رجيـعه قَـمّه — وهكذا كثير من الناس

    ومنهم : من هو على طبيعة الطاوس .ليس له إلا التطوس والتزيــــن بالريــش وليس وراء ذلك من شيء

    ومنهم : من هو على طبيعة الجمل .أحقد الحيوان وأغلظـــه كبداً

  4. دعا سقراط الفيلسوووووف العظيم ,جماعته لتناول الطعام في منزله …فلما رأى أحد الضيوف بساطة الطعام,وقلةأنواعه,وألوانه,قال لسقراط :كان يجدر بك ان تزيد اهتمامك بضيوفك اكثر …
    فقال سقراط :ان كان ضيوفي عقلاء فعلى المائدة ما يكفيهم…وان لم يكونوااا عقلاء فعلى المائدة اكثر مما يستحقووووووووووووووووون ….

  5. موضوع رائع ونهايه جميله جدا وكلام في منتهى الدقه لقد قرآت الموضوع باهتمام ودقه عاليه وجدا عجبني.
    عجبتني هذه الجمله جدا :
    ” إنني،ببساطة شديدة، تقيّأت نفسي قَرَفاً من هذا العالم ”
    شكرا اخي الكريم مامون.

  6. ” إنني،ببساطة شديدة، تقيّأت نفسي قَرَفاً من هذا العالم ”
    ..
    وانا كمان قرفت من هالعالم اللي عكس أطباعنا وعكس حياتنا سوري أذا خرجت عن الموضوع بس هالجمله بالصميم شكرا لك مأمون

      1. لا والله ياعمر مو كذا أنا ماشفتك طول اليوم ولو شفت أكيد بسلم عليك وصباحك ورد ومسك وعنبر
        كيفك ؟؟ أن شاء الله تمام

  7. اخ مأمون
    رائع جدا .. استمتعت بما كتبت ..
    ومع الاسف هذا هو عالمنا الان الذي نعيش فيه .. يستنكر القتل والجوع واحتلال الاراضي وقمع البشر وهو في الحقيقه ليس الا ذر الرماد في العين .. ولكن لا نتيجه في النهايه, لان الانسان هو الضحيه .

  8. رائـــــــــــــــــــــــــــعة.
    الدعابيل كتير فى وطننا العربى، منهم دعابيل بمزاجهم، ومنهم دعابيل مش بمزاجهم.
    ودعابيل عاملين نفسهم دعابيل وهم مش دعابيل.
    مشكــــــــــــور مأمون.

  9. شكراً للجميع ..
    المقالة فعلاً معبرة جداً .. وتحكي واقعنا المُعاش ..!!

  10. الدعابيل كتير فى وطننا العربى، منهم دعابيل بمزاجهم، ومنهم دعابيل مش بمزاجهم.
    ودعابيل عاملين نفسهم دعابيل وهم مش دعابيل.
    copy
    True Fati 3ajabatni
    shukran ma2moon wa ALLAH yefarej 3an ahel suria bi al 9areeb al 3ajel ya rab wa ya7mi kul al bilad al 3arabiia

  11. للاسف واقعنا او واقع اغلبنا اخ ،، مامون ,,
    مواضيعك فعلا قيمة ومميزة
    شـــــــــــــــــــــــكرا

  12. مساء الخير مأمون…كيفك و كيف الاحوال؟؟ عساك تكون بخير…القصة جميلة …من أبو طوطح لدعبول هههههههه مين هو دعبول؟؟؟

  13. اة والله اخت ♥♥ مريم ♥♥ كان نفسى اسال نفس السوال عم طحطوح
    وعم دعبول مين هما

    1. هاااي رنيم…كيفيك؟ ان شاء الله تكوني بخير دايما…تعرفين أني مش فاكرة وين سمعت اسم دعبول…أظن شخصية في فيلم كرتون و الله اعلم…دعبول دي مش غريبة علي ههههههههه

  14. آرابيا ورنيم ومريم مشكووووورات على المرور ..
    ذكرتوني بأبو طوطح ما كملت أحداثه .. بس الله الواحد ما عاد أله نفس يكتب ..

  15. هذا واقعنا المر اخي مامون عزائنا اننا جئنا في هذا الزمن الاغبر لانبصر ولانسمع ولانرى
    نسال الله ان يرفع عنكم البلاء وعن جميع المسلمين في مشارق الارض ومغاربها

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *