كيف أصبحوا عظماء؟

 يقول الياباني تاكيو أوساهيرا :

ابتعثتني حكومتيللدراسة في جامعة هامبورغ بألمانيا ، لأدرس أصول الميكانيكا العلمية ،

ذهبت إلىهناك و أنا أحمل حلمي الخاص الذي لا ينفك عني أبداً ، والذي خالج روحي وعقلي

 وسمعيوبصري وحسي ، كنت أحلم بأن أتعلم كيف أصنع محركاً صغيراً.

كنت أعرف أن لكلصناعة وحدة أساسية أو ما يسمى موديلاً وهو أساس الصناعة كلها ، فإذا

 عرفت كيف تصنعهوضعت يدك على سر هذه الصناعة كلها .

وبدلاً من أن يأخذني الأساتذة إلىالمعمل أو مركز تدريب عملي ، أخذوا يعطونني كتباً لأقرأها ،

 وقرأت حتى عرفت نظرياتالميكانيكا كلها ، ولكنني ظللت أمام المحرك ، أياً كان قوته ، وكأنني

 أقف أمام لغزلا يحل ، كأني طفل أمام لعبة جميلة لكنها شديدة التعقيد لا أجرؤ على العبث بها .

كم تمنيت أن أداعب هذا المحرك بيدي ، كم أشتاق إلى لمسه والتعرف علىمفرداته وأجزائه ،

 كم تمنيت لمه وضمه وقربه وشمه ، كم تمنيت أن أعطر يدي بزيته ،وأصبغ ثيابي بمخاليطه ،

كم تمنيت وصاله ومحاورته والتقرب إليه ، لكنها ظلت أمنيات .. أمنيات حية تلازمني وتراودني

 أياماً وأياماً .

وفي ذات يوم قرأت عن معرضمحركات إيطالية الصنع ، كان ذلك أول الشهر وكان معي راتبي ،

 وجدت في المعرض محركاًبقوة حصانين ، ثمنه يعادل مرتبي كله ، فأخرجت الراتب ودفعته ،

وحملت المحرك وكانثقيلا جداً ، وذهبت إلى حجرتي ووضعته على المنضدة ، وجعلت أنظر إليه

 كأنني أنظر إلىتاج من الجواهر ، وقلت لنفسي : هذا هو سر قوة أوروبا.. لو استطعت أن أصنع

 محركاًكهذا لغيرت اتجاه تاريخ اليابان ، وطاف بذهني خاطر إن هذا المحرك يتألف من قطع ذات

أشكال وطبائع شتى ، مغناطيس كحدوة الحصان ، وأسلاك وأذرع دافعة ، وعجلات وتروس وماإلى ذلك ،

لو أنني استطعت أن أفكك قطع هذا المحرك وأعيد تركيبها بالطريقه نفسهاالتى ركبوها بها ثم شغلته

 فاشتغل .. أكون قد خطوت خطوة نحو سر موديل الصناعةالأوروبية .

بحثت في رفوف الكتب التى عندي ، حتى عثرت على الرسوم الخاصةبالمحركات ، وأخذت ورقاً كثيراً ،

 وأتيت بصندوق أدوات العمل ، ومضيت أعمل .. رسمتمنظر المحرك بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمي

 أجزاءه ، ثم جعلت أفكك أجزاءه ، قطعةقطعة ، وكلما فككت قطعة رسمتها على الورق بغاية الدقه

 وأعطيتها رقماً ، وشيئاًفشيئاُ فككته كله ، ثم أعدت تركبيه وشغلته فاشتغل ، كاد قلبي يقف من الفرح ،

واستغرقت العمليه ثلاثة أيام ، كنت آكل في اليوم وجبة واحدة ، ولا أصيب من النومإلا ما يمكنني من

 مواصلة العمل .

وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا فقال : حسناًما فعلت ، الآن لابد ان أختبرك سآتيك بمحرك متعطل ،

وعليك أن تفككه وتكتشف موضعالخطأ وتصححه وتجعل هذا المحرك العاطل يعمل ، وكلفتني هذه

 العمليهةعشرة أيام ، عرفتأثناءها مواضع الخلل ، فقد كانت ثلاث من قطع المحرك بالية متآكلة

 صنعت غيرها بيدي .. صنعتها بالمطرقة والمبرد ، لقد كانت هذه اللحظات من أسعد لحظات حياتي ،

 فأنا معالمحرك جنباً إلى جنب ، ووجهاً إلى وجه ، لقد كنت سعيداً جداً رغم المجهود الكبيرالذي بذلته

 في إصلاح هذا المحرك .. قربي من هذا المحرك أنساني الجوع والعطش .. لاأأكل في اليوم إلا وجبة

 واحده ، ولا أصيب من النوم إلا القليل ، ثم تأتي اللحظاتالحاسمة لاختبار أداء عملي لإصلاح هذا المحرك

 بعدما جمعت أجزاء المحرك من جديد .. وبعد قضاء عشرة أيام من العمل الشاق ، أخذت يدي تقترب لإداء

 المحرك .. وكم كنت أحملمن القلق والهم في تلك اللحظات العصيبة ..هل سيعمل هذا المحرك؟

هل سأنجح بعدماأدخلت فيه بعض القطع التى صنعتها ؟! وكم كانت سعادتي واعتزازي بعدما سمعت صوت

 المحرك وهو يعمل .. لقد أصلحته .. لقد نجحت .

بعد ذلك قال رئيس البعثة عليكالآن أن تصنع قطع المحرك بنفسك ، ثم تركبها محركاً ، ولكي أستطيع أن

 أفعل ذلكالتحقت بمصانع صهر الحديد وصهر النحاس والألمونيوم ، بدلاً من أن أعد رسالةالدكتوراه

كما أراد أستاذي الألماني ، تحولت إلى عامل ألبس بدلة زرقاء وأقف صاغراًإلى جانب عامل صهر معادن ،

 كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم حتى كنت أخدمه وقت الأكل، مع أنني من أسرة ساموراي .. والأسرة

 السامورائية هي من أشرف وأعرق الأسر فياليابان ، لكنني كنت أخدم اليابان ، وفي سبيل اليابان يهون

 كل شيء .

قضيت فيهذه الدراسة والتدريبات ثماني سنوات كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشر ساعة في

اليوم ، بعد انتهاء يوم العمل كنت آخذ نوبة حراسة ، وخلال الليل كنت أراجع قواعد كلصناعة على الطبيعة .

وعلم الميكادو ( إمبراطور اليابان ) بأمري ، فأرسل ليمن ماله الخاص خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهباً،

 اشتريت بها أدوات مصنع محركات كاملةوأدوات وآلات وعندها أردت شحنها إلى اليابان كانت النقود قد

 نفذت ، فوضعت راتبي وكلما ادخرته خلال تلك السنوات الماضيه لاستكمال إجراءات الشحن .

وعندما وصلناإلى ناجازاكي قيل لي إن الميكادو يريد أن يراني ، قلت لن أستحق مقابلة إلا بعد أنأنشئ

مصنع محركات كاملاً استغرق ذلك تسع سنوات .. تسع سنوات من العمل الشاق والجهدالمتواصل.

وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي عشرة محركات ” صُنعت في اليابانقطعة قطعة ، حملناها إلى

 القصر ، ووضعناها في قاعدة خاصة بنوها لنا قريباً منه ،ثم أدرنا جميع المحركات العشرة ، دخل الميكادو

 وانحنينا نحييه وابتسم ، وقال : هذهأعذب موسيقى سمعتها في حياتي ، صوت محركات يابانيه خالصة ..

 هكذا ملكنا الموديل وهوسر قوة الغرب ، نقلناه إلى اليابان ، نقلنا قوة أوربا إلى اليابان ، ونقلنا اليابان

 إلى الغرب ، وبعد ذلك الحدث السعيد ذهبت إلى البيت فنمت عشر ساعات كامله لأول مرةفي حياتي منذ

خمس عشر سنة .

شارك الخبر:

شارك برأيك

‫14 تعليق

  1. جميل جميل
    مع الاسف المواطن العربي يعشق ويقدس وطنه وشعبه
    بالشعر والنثر والبرامج التلفزيونيه فقط
    بدون انتماء حقيقي للوطن او لسمعه ومستقبل الوطن
    شكرا اخ
    Alfares Almasry Alarabi
    تحياتي

  2. قصة قيمة تحت على المثابرة من أجل تحقيق الطموح مهما بلغت الصعوبات
    شكرا لك أخي فارس

    1. Merci Kawtar
      الفيديو راااااااااااااائع ..!!! الله يعطيك الصحة. استمعت بالفرجة عليه..

        1. اهلاااا بالزيونات سلمى عاش من شافك الله يسلمك حمد الله على سلامتك توحشناك ان شا الله انتي و البيبي بخير سوسو مسافرة الله يرجعها بالسلامة. دبا نوصلها سلامك.

      1. العفو أختي رونق الحمدالله مازال هناك شباب يعمل من أجل العمل بحد ذاته و ليس فقد من أجل الماديات رغم أهميتها في عصرنا الحالي.

    2. عفوا الأخ فارس وليس فرس استسمح على هذا الخطا الكيبوردي الخارج عن إرادتي

      1. اخت kawtar
        شكرا على الفيديو
        بس مع الاسف بسبب اللهجة لم استطع مشاهدته
        وتقبلي تحياتي و تقديري

        1. العفو أخي كنت أعتقد أن اللهجة مبسطة بإستثناء بعض الكلمات الفرنسية التي أ غلبها مصطلحات علمية لا تأثر على فهم موضوع الفديو عامة, لكن يبدوأننا بحاجة إلى إختراع موقع لترجمة اللهجات من أجل التواصل.

  3. هناك نماذج لاتحصى من أمثال تاكيو، تجد في غير بلادها وتحرز العلوم وتخترع وتحظى بالتبجيل، لكنها إذا رجعت لبلادها قيل لها منزلتك كأي متخرج من عندنا، لاتشجيع ولاتكفل، وكثير قد عادوا من حيث أتوا بعد أن تبخر مبدأ الرجوع للبلد للإسهام في تطويرها.
    القضية قضية تسيير وبرنامج سياسي، وبعده ستعود الأدمغة المهاجرة لتكون تحت الطلب.
    شكرا أخ الفارس

  4. كوثر المغرب العربي يفهم جميع اللهجات وهدا في حد داتو دكاء …تبارك الله علينا …شكر على الفيديو وشكرا صاحب الموضوع…

  5. قصة رائعة يا أخ فارس… ومبارك عودة موضوعاتك لنورت.
    كان لى صديقة ليها قريب عايش طول عمره في امريكا، وكان عبقري بكل ما تحمله الكلمة من معنى، جه مصر مع اسرته للاسقترار، الولد طلع بثلاث ملاحق 🙁

  6. القصه معبره عن الإصرار وعن الأهداف التي تصنع الإنسان اجمل مافيها انه نام بعد خمس عشره سنه عشر ساعات ونحن كل يوم ننام عشر ساعات بلا إنجازات شكرًا أخ فارس علا الحكمه من القصه

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *