قال بعظمة لسانه، والعهدة على الراوي: سمعت النداء منادياً باسمي، فدخلت غرفة الاجتماعات المعدة للمقابلة الشخصية ، فسلمت على الجميع ، فأمرني أحدهم بالجلوس .. لقد كانوا ثلاثة ، مختلفي الزي والهيئة والطلـة ، لكن إخوة من أبناء آدم ، وكان أحدهم مختلفاً ، فهو ” مبتسم ” ، أما الاثنان ، فكانا وكأنهما بعزاء ، وقد ترك هذا علامات تعجب سلبية أمامي ، وأفقدني بعض الأمل ، في الحين ، تمنيت أن يبدأ المتبسم بالسؤال ، لكن لم تتحقق أمنيتي ، فقال آخر : أأنت فلان أبن فلان أبن فلان من آل فلان ، كما هو مدون أمامي هنا ؟ ، وقد تهجأ الاسم رباعياً حرفاً بحرف ، حتى كاد ينطق بأسم أمي وخالتي ، فقلت نعم : بشحمه ولحمه وعقله ، ثم سألني : من أين قدمت ؟ ومن أي مدينة ؟ فقلت من مدينة كذا ، ثم سأل : ومن أي حارة بالضبط ؟ ومن أي زقاق ؟ المهم أني فهمت أنه يريد خارطة الطريق لبيتنا ولجذور عروقنا حتى أبونا آدم عليه السلام ، فأعطيته ما يريد ، حتى عن لون باب جارنا ، وماركة فانيلة أبي ورقم سروال جدي ، واسم الخبز الذي نشتريه ، وكيف تعد أمي الهريسة برمضان ….. بعد دقيقة صمت ! نطق زميله : هل رجل الأعمال الفلاني قريبكم ، فقلت ” لا ” فقط تشابه أسماء ، ورمى بالسؤال الثاني : هل سافرت إلي دولة كذا ؟ فجاوبت بالنفي .

قاطع الموظف المبتسم هرجهم وقال : بنيّ ! هل تستطيع التحدث باللغة الإنجليزية منذ خروجك من البيت حتى وصولك الي هنا ، فقلت له : مع أني لا أجيدها كالبلبل ، لكن سأقول ما أعرفه ، فعصرت ذاكرتي وذكائي ، حتى انتهيت بعد دقائق ، فقال صاحب النبرة الطائفية ” وعذراً لنطقي بهذا المصطلح ” هل تستطيع أن تؤذن ؟ فقلت له ، وما دخل الأذان بالوظيفة ، فأنا مسلم ، وجدي محمد ، وأخي محمد ، وخالي محمد ، وصديقي محمد وجارنا محمد ، وعلمني أبي أن أصلي ليل نهار على محمد ، وإن شاء الله عندما أتزوج سأسمي أبني محمد .. لكن هو أصر على الأذان ، وكان زميله المبتسم ممتعضاً من صيغة السؤال ، فأعطيته مايريد وأذنت وكأني بلال بن رباح بوسط الغرفة ، وهم ينظرون إليّ ، فانتهت المقابلة الكهنوقصائية ، وقبل خروجي أستوقفني الموظف المبتسم ، وسألني : لماذا تريد أن تعمل ؟ ولم تكمل الدراسة ؟ فقلت له : نحن من طبقة البروليتالية ، أي الكادحة ، وأبي فقير ، وبيتنا بالإيجار منذ خلقت ، ولا يقوى على تربية إخوتي لوحده ، فأردت أن أكون له عوناً وسندا ، فصمتوا حتى سمعت دقات قلوبهم ، وخرجت .

أنقضى شهران ، فأتصل أحدهم وقال : أخبروا أبنكم فلان أن يراجع الشركة ، فذهبت على عجلة مسابقاً الريح ، فعلمت بقبولي رسمياً ، فسقطت الدموع دون خجل أمام المسؤول ، فعملت الفحص الطبي ، ووقعت العقد ، وبعد مضي ثلاث سنوات ، وبمحض الصدفة بمطعم الشركة ، قابلت الموظف صاحب الابتسامة ، فأحببت أن أتناول وجبة الغداء معه ، فرحب بي ، وسألني عن أوضاعي ، وكيف الأمور ، فأخبرته أني تزوجت ، ومازلت يداً بيد مع أبي ، فقال لي قبل مغادرته : بيني وبينك ، أنا من وضع أسمك بقائمة الاحتياط ، وأصررت على قبولك .. هل تعرف السبب ؟ هو أنك بار بوالديك ، وهذا ما دفعني لمساعدتك بعد الله ، وأعلم أن معظم الناس تعمل من أجل لقمة العيش للعيش ، لكن أن يكون غايتك مساعدة والديك ، فهنا الأمر مختلف ، ويحتاج إلي وقفة ، وأعلم إن ما يكتبه الله لك فهو لك ، ولن يؤخذ منك ، وهو رازقك … في أمان الله .

فوزي صادق / كاتب وروائي سعودي  :    تويتر :     @Fawzisadeq   البريد الإلكتروني :      [email protected]

شارك الخبر:

شارك برأيك

تعليق واحد

  1. بغض النظر عن الرسائل التي تضمنها المقال والمتعلقة بالاختيار على أساس الطائفة أو الإنتماء السياسي حسبما فهمت، لكن في الأخير هناك من اختاره لدافع انساني، ولايزال الرفق يزين سلوكات بعض البشر
    كما أن صاحب الهدف النبيل يهئ له الله من يعينه رغم كل المعوقات
    شكرا للكاتب

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *