لم يدرِك كم مضى عليه من الوقت و هو يتأمل يصوت الماء يجري في رأسه عابراَ إلى خلايا مكامن تأملاته و منها إلى سراديب خبابا توهماته. كان مأخوذاً بموسيقى انسياب النهر و هي تتحول إلى تموجات تراقص تموجات عزف الأسرار في روحه. كان مستأنساً بالمشهد يتلمس فيه السكينة من انسجام راقصَين اتحادا معاً ليعقدا مع الرتابة في نبضات قلبه اتفاقية هدنة و مع الصفاء في قرارة نفسه معاهدة سلام.

لطالما تساءل بذهول المفتون بالمجهول و حشرية المستَفز بالغموض عن سر هذا السحر في إيقاع حديث النهر مع صمته المصغي إلى كلام جريانه المستمر و اللا منتهي, فهو و منذ براءة أفكاره ما عرفه إلا رفيقاً مخلصاً و ثرثاراً لم يتوقف في خريره يوماً عن وهب اسرار الحكمة الأزلية هدايا تسرد الكلام موسيقى تتحدث بلغة الطبيعة الأولى.
رفيقه النهر هذا, الذي لطالما استمع منصتاً بإصغاءٍ صاخب و اهتمامٍ صادق إلى أحاديث تأملاته في صمت ساعات تفكره, و لطالما طبطب بيد الطبيعة الحانية على كتف روحه في لحظات بوح حزنه, كان مخلصاً حقاً لصداقاته و كان وفياً حقاً مع روّاده, كان حقاً صديقاً نصوحاً لمن رافقه, أما هو فلا .. لم يكن وفياً, لا مع تاريخه و لا مع غده, و لم يكن صديقاً مخلصاً لا لنفسه و لا لرفيقه النهر, لكنه لم يدرك حقيقة خيانته إلا الساعة و إلا الآن.

كان يتفكر في سؤال النهر القديم إياه: لما لا تعبرني إلى ضفّتي الاخرى؟ .. كثيراً ما سأله رفيقه النهر هذا السؤال, و كثيراً ما هز هو رأسه رافضاً التفكير حتى في جوابٍ احتياطي يحفظ به ماء وجه خيبته و يقنع به استجواب تندّمه إذا ما ساءله يوماً تماماً كما يفعل معه الآن, لكنه رفض النصيحة و رفض التأمل بأبعد من حدود موسيقى جريان النهر في تكراره للسؤال. كم كان سطحياً حينها و كم كان أحمقاً لأنه لم يمتلك جرأة التأمل و التفكر فيما وراء الحكمة من طرح النهر لسؤاله مرة تلو المرة. لم يدرك قيمة جوابه المقتول إلا الساعة و إلا الآن.

حتى الضفة التي حملت تواقيع أثار قدميه على مدى سنين لقاءاته مع النهر و حفظت حواراته مع حبيبها و كتمت في جوف طميها كل ثرثرات و أسرار بوحهما كانت في صف تعنت رفضه و في صف خيانته لنفسه , كانت تؤيد رفضه و تساند حماقته و تصر عليهما بشدة بشَدّ قدميه أكثر إلى طميها في كل مرة طرح فيها النهر عليه السؤال. هي خبرت حكمة حبيبها النهر زمناً طويلاً و فهمت مقاصد مراميه, كانت تعرفه و ودت قتل الجواب. و هي أدركت مآل تفردها واستئثارها و تسلطها عليه إن هو عبر بجوابه النهر و اكتشف الضفّة الأخرى, كانت تعرفه و تعرف جمال اللقاء مع توأمتها المقابله فشاركت معه باغتيال الجواب. لقد كان أحمقاً بقدر ما كان يثق بها لأنه لم يعِ تآمرها عليه و على بقائهما معاً إلا الساعة و إلا الآن.

إلا الساعة و إلا الآن .. ترددت العبارة في رأسه كجرس إنذار لا يتوقف عن صراخه الاحمر و لو لثانية استراحة تفكر صفراء واحدة تمنح نفق تأخر إدراكه بصيص ضوء اخضر ينقذ بها بقية حكمته من الزوال . كانت خطوات ترجيع العبارة في رأسه تسابق خطوات هروبه منها, شامتة به و بأربعة عشر قرن من الافتراق و التقهقر لازموا عمر حماقته التي رآها تلطم وجهها حين تجرأ على النظر إليها من خلف كتفيه.
إلا الساعة و إلا الآن .. عبارة تجلت فيها كل سنين تعنته, و كل غباء التصاقه بضفةٍ خانته غيرتها و استبد به تخوّفها, حين وثق بظن معرفته لها وثوق الشاة بناحرها, و حين ركن إلى أكاذيب و هلوسات وهم طميها ركون غفلته إلى حماقة عدم إدراكه الحكمة من تكرار النهر لسؤاله مرة تلو المرة.

هو الذي تملكه سحر الماء و اجتذبه عزف ترانيمه بأي شكل ظهر و بأية معجزة تجلّى, هو الذي اتقن لغة الماء حين اكتشفها أغاني تواكب سقوط المطر صلوات تهوي قبلاً على دعاء أديم سكون الأرض, هو الذي فهمها حين سمعها همساً يُفشي بتقلبات أمواجه أسرار بحرٍ ائتمنه على حكاياه, هو الذي اتقنها حين تحدثها صمتاً يناجي إيقاعاً صاخباً يجري في عناقٍ أبدي مع حبيبة له احتضنته بذراعَي ضفّتيها.. بذراعَي ضفّتيها.. كذراعَي ضفّتي حبيبة رفيقه هذا التي أجنّها خوفها و أذهبت ريبتها عقلها, حتى ظنت ضفّتها الأخرى عدوتها, و ظنت ذراعها المقابلة غريمتها, فانتحرت بوهمٍ أعمى قتل معه تراث قرون حكمته حين شاركها هو باغتيال الجواب.

هو الذي كان نديم حكمة النهر و وارث معجزات معارفها, لم يدرك حجم فاجعته و لم يعِ فضيحة خساراته إلا الساعة و إلا الآن ..ألا الساعة و إلا الآن.

مريم الحسن

شارك الخبر:

شارك برأيك

تعليقان

  1. مع الأسف النص طويل جداً بحيث يتشتت إنتباهي خلال القراءة و لطالما ظننت كما يقول أسلافنا الإعجاز في الإيجاز فعذراً

  2. لازلت عن رايي كتابتك جميلة بس ياريت ما تكون الشكوك الي ببالي صح أصل أربعة عشر قرنا و تلطم الوش و كان النص سيأخذنا لمنحى طائفي احنا بغنى عنه .

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *