طفل حشاشحكاية من حكاية رهبان مذهب “زن” اليابانيين أنقلها كما هي ..

فقد زوج شاب شريكة حياته في زهرة عمرها، كانت جميلة، و لكن مشاكسة قليلاً وغيورة بشكل مخيف،

بعد حداد يستحق التقدير استمر ستة أشهر، شعر الشاب، مع إطلالة الربيع، بمشاعر جديدة تتولد فيه ..

بحث عن زوجة، و خطب الحلوة “يويوهي”، التي يصدح اسمها مثل زقزقة القرقف،  مثل هفهفة الحرير، باختصار، كان الشاب الأرمل عاشقاً، و أسعد مما كان مع زوجته السابقة في أي يوم ..

حينذاك، ظهر طيف تلك الزوجة لأول مرة..

ذات ليلة، بينما كان نائماً بارتياح علي حصيرته، أحس بتيار هواء بارد يدغدغ أخمص قدميه، فاستيقظ ..

كانت “كيريوكا” أمامه، تلك الحسناء، و علي رغم ما كان فيها من اضمحلال، بدت غاضبة، ولم تفقد شيئاً من طبعها الغيور ، قالت :

– كيف تجرؤ علي خيانتي مع صغيرة بلهاء، لا حسن فيها ؟

أضافت بلهجة لا تنم عن وفاء :

– و لها، منذ ولادتها، ندبة شديدة القبح علي الجهة اليسري من صدرها !

سأل “هيوشي”، الزوج المسكين مندهشاً

– كيف عرفت ذلك؟

قالت، قبل أن تتلاشي :

– في مملكة الأموات، يمكننا الوصول إلي الأسرار، و نعرف كل الأشياء التي تخفي علي عيون الأحياء !

لم ينم “هيوشي” المرتعد خوفاً تلك الليلة ..

منذ ذلك الحين، أصبحت حياته جحيماً، كان في النهار يتنزه مع “يويوهي”، الناعمة كالحرير، في بساتين أبيه، كانا يتأخران في الجلوس قرب بركة ماء كبيرة، مستمتعين بروعة أزهار اللوتس النامية ..

لم يعرف “هيوشي” الضجر برفقة خطيبته، كان يسامرها بحنان، و يحادثها ببسمات خجولة، متأملاً خلف عنقها المكتمل، و شعرها الحالك السواد، و خديها الناعمين كمخمل زهرة الخوخ ..

في الليل، كان يتسلل إليه طيف “كيريوكا” فيقض مضجعه،

بعد أن تجلس زوجته المتوفاة علي طرف الحصيرة، تروح تسخر من كل أفعال و حركات نهاره، و تقلد بتهكم رقة كلماتهما، كانت تذكره بغرامياتهما القديمة، و تردد علي مسمعه :

– أعرف كل شئ عنك، و معرفتي هذه تقيدك، حياتك لي وحدي، لي أنا !

أفضي “هيوشي” المسكين، و قد أنهكت قواه و أوشك علي الجنون، بسره إلي أحد أصدقائه، فنصحه بأن يستشير معلم “زن” شهيراً يعيش متنسكاً في معبد “كنينجي” القديم، كانت رحلته إليه طويلة و صعبة، و عندما أصبح في المعبد، حكي للراهب محنته، قال الراهب في هدوء :

– استحالت زوجتك شبحاً، و تعرف كل شئ عنك ..

– نعم أيها المعلم، أنت تعلم أنه يمكنها، و قد نزلت في ديار الأموات، الوصول إلي تلك الأسرار التي يتعذر علينا نوالها، تعرف الماضي، و المستقبل، و تدقق متي تشاء في أدني أفكاري !

و هو يحك إصبع قدمه بقضيب خيزران صغير، فالسماء كانت قد أمطرت، و لطخ بعض الوحل قدميه العاريتين في الصندل، قال المعلم بكل هدوء :

– أري ذلك !

– ماذا يجب أن أفعل أيها المعلم؟

– لا تزال شاباً، يا “هيوشي”، قلبك بكر و رقيق، من اليسير أن يبسط سيطرته عليك، سأساعدك ..

انهال عليه الأرمل الشاب عليه بالشكر، و قال :

– سأتبع نصائحك أيها المعلم، سأمتثل لها بكل دقة، دلني فقط علي الطريق ..

– عندما يظهر طيف زوجتك، جاهر بجهلك بتذلل، امتدح معارفها المدهشة، باختصار، تملقها، و اعرض عليها صفقة،

” إن استطعت الإجابة عن سؤال أخير، أقتنع نهائياً بقدراتك فوق الطبيعية، و أتخلي عن “يويوهي”، التي ليست سوي مخلوقة عادية، و سأكون زوجك المخلص إلي الأبد” ..

صرخ “هيوشي” :

– للأسف، هي التي ستتغلب عليَّ، أنا متأكد، ما لا تعرفه، تحزره، لا يخفي عليها شئ مما أفعل و أفكر ! ..

صاح الراهب بخشونة :

– اتبع نصيحتي أو انصرف إن لم تشأ الإصغاء لما أقول ..

“هيوشي”، المضطرب و المذعور، قبل :

– سأطيع أيها المعلم !

– تناول بيدك اليمني حفنة كبيرة من حبوب “الصويا”، واسألها كم هو عدد الحبات ..

سأل “هيوشي” في دهشة مشوبة بالتوتر والخوف :

– أهذا هو كل شئ؟

لم يجب راهب “الزن”، اتخذ وضعة اللوتس و التأمل ..

عاد “هيوشي” إلي البيت ..

في الليلة نفسها، ظهر طيف زوجته من جديد، تسائلت ساخرة :

– ذهبت لزيارة معلم “الزن”، أتحسب أني أجهل ذلك، و أنك تستطيع الإفلات مني؟

عندئذ، أدخل “هيوشي” يده في كومة “صويا”، و انتزع منها حفنة كبيرة بيده اليمني، و مدها مغلقة، و سألها :

– كم حبة في قبضتي؟

تبدد طيف “كيريوكا” في الهواء، و لم يظهر بعد ذلك قط ..

أراد رهبان “الزن” بهذه الحكاية الخيالية أن يقولوا :

” يكفي شئ زهيد، قدرٌ ضئيل من التفكير السليم، سؤال واضح، ضحكة لإرباك المعلمين الروحيين المزيفين، الذين يتدبرون أمر النفوس البسيطة، و الأرواح الحساسة أو التي ضعفت، بإحاطة أنفسهم بالغموض و الأسرار، حفنة من حبوب “الصويا”، و تتعري حقيقة الأشباح، و تتهاوي الأصنام التي تتحصن خلف قلاع كرتونية، و تداس بالأقدام التي لابد لها منها ..

لا أجد تعريفاً أكثر عدالة لهذا المذهب، أقصد “الزن”، و هو البوذية في نسختها اليابانية، من أنه لونٌ من ألوان الجمال، صدمة ميسرة لا يتعارض مع أي عقيدة ..

 و لست أشك للحظة واحدة، في أن قدرة اليابانيين علي استعادة ايقاع الحياة، بتصرفات عصبية، بعد هزيمتهم المروعة في الحرب العالمية الثانية ولدت، ثم ينكمش بعد ذلك كل شئ، من تلك التراكمات التي تركها رهبان “الزن” في تكوين شخصية اليابان ..

شئ آخر،

يقول “يوسف إدريس” في كتابه “اكتشاف قارة”، أن صديقاً له هاجر إلي “اليابان”، حكي له أنه أحب امرأة يابانية، و هي أيضاً أحبته،

دعاها ذات يوم إلي العشاء في منزله، و قبلت الدعوة، ثم، بعد انتهاء طقوس المائدة، و هما يحتسيان بعض “الساكه”، المشروب الوطني هناك، باح لها برغبته في أن يمارس معها الجنس، فاحتدت تعبيرات وجهها، برغم ذلك، قالت في هدوء :

– أنا أيضاً أرغب في ممارسة الجنس معك يا سيدي، لكنني هنا، لا أمثلني وحدي، إنما أمثل المرأة في كل شبر من أرض اليابان !

علي أية حال، يجب ألا يمنعنا الإعجاب بكلام هذه الطاهرة أن ندرك أنه لونٌ من ألوان “مُحْن” النساء، لكن، علي الطريقة اليابانية، فلقد استطاع هذا المصري الأصلي في النهاية أن يطرد من الغرفة شبح “مليون” امرأة يابانية، و يحقق رغبته، هذا الكلام علي عهدة “د. يوسف ادريس” طبعاً !

للأسف، لقد تجاوز اليابانيون في مسيرتهم نحو الرقيّ هذا المذهب، بل تجاوزوا البوذية كلها، لم يبق منها سوي أصداء في الذاكرة، يصغون إليها عند الحاجة ..

نعم، الضحك ضرورة لإرباك خصمك، و “النكتة” سلاح متعدد الأبعاد لا يجب إغفاله في المعركة،

و السخرية من الحكام في الغرف المغلقة تكاد تكون عرفاً دارجاً في كل مكان علي وجه الأرض، و علي طول التاريخ وعرضه ..

و حين لا تنجح السخرية في استيعاب حالة السخط العام، تبدأ الثورات، هذا صحيح، صحيح أيضاً أنها اتخذت عند المصريين شكلاً أكثر عمقاً، إذ قدس المصريون النكتة، و جعلوا لها إلهاً يعبد، و لإضفاء ظل من الحقيقة علي هذا الإله، زوجوه إله الحكمة ..

و أول “نكتة” سجلها التاريخ صناعة مصرية خالصة، صحيح أنها “نكتة” سخيفة، أو بمعني أكثر دقة، هي ليست “نكتة علي الإطلاق، لكن يجب أن نأخذ في الاعتبار قبل الحكم علي سخافتها، عمرها الذي يقترب من “5000” سنة، يجب أن نأخذ في الاعتبار أيضاً أن النكتة التي تسببت للكثيرين في جلطات مركبة: ” واحد راح يقعد علي قهوة قعد علي شاي” !، لا يتجاوز عمرها 50 سنة،

يجب أن نأخذ في الاعتبار كذلك، أن المصريين في ستينيات القرن الماضي كانوا يصنفون الفنان ” أبو بكر عزت ” كممثل كوميدي، و قبل كل شئ، نأخذ في الاعتبار نكات “حمادة سلطان”، صاروخ النكتة، آه !

و أول “نكتة” مدونة ترجع إلي عهد الملك “سنفرو”، والد الملك “خوفو” صاحب الهرم الأكبر، حيث حاول بعض المنافقين إيجاد طريقة لإسعاد الملك “سنفرو” حين يذهب لصيد السمك، فاقترح أحدهم  بأن يقذفوا، دون أن يدري الملك، عبداً، ثم يصرخون جميعاً : هناك سمكة كبيرة يا سيدي !

لا هي نكتة و لا يحزنون علي ما يبدو، لكنهم علي كل حال سجلوا بها أنفسهم، لا أدري لماذا، رواداً للنكتة ..

من الجدير بالذكر، أن هذه النكتة، برغم سخافتها، تنطوي علي سخرية مغلفة من الملك “سنفرو” بقدر يفوق بكثير الرغبة في إضحاكه، كأنهم كانوا يرون فيه ذلك الغبيَّ الذي لا يفرق بين صوت العبد عند قذفه في الماء، و صوت السمكة، و هذه كانت البداية لسلسلة متصلة من “نكات” السخرية من كل الحكام فيما بعد ..

و لقد لجأ المصريون القدماء أيضاً إلي الرمز للسخرية من حكامهم، إذ خلَّدوا “الهكسوس”، أقدم المحتلين لوطنهم، علي جدران المعابد في هيئة فئران تهاجم قاعة من القطط، و فئران تقود العجلات الحربية وهي تلبس الدروع و تمسك بالأقواس و السهام، الطريف، أن القطط في النقوش لا تزال تقف علي أرجلها الخلفية و ترفع يديها مستسلمة !

إذن، لقد سبقوا “والت ديزني” في ابتكار هذين الرمزين المضحكين، بآلاف السنين، و لعل هذا النقش تحديداً يدحض الرأي القائل بأن النكات المرسومة ظهرت لأول مرة في أوروبا ..

كما أكد المؤرخ الكبير “هنري برستيد”، في كتابه “تاريخ مصرمنذ أقدم العصور”، أن المصريين القدماء هم أول من نقش النكت والرسوم الهزلية في القبور وعلى جدران المعابد!..

كذلك المؤرخ الألماني الكبير، “أدولف أرمان”، في كتابه “ديانة مصر القديمة”، أكد أن الرسام الفرعونيَّ، “نب رع”، كان أول من وعد الإله “آمون”، بإضحاكه وإسعاده بالنكت والرسوم الساخرة، شريطة أن يشفى له ابنه!”

كما أن أول كتاب في التهكم ، هو كتاب “تعاليم خيتي” لابنه بيبي، الذي يرجع تاريخه إلى الدولة الوسطي، أي منذ “4300” عام تقريبًا، وهو الكتاب الذي  كان تلاميذ المدارس في “مصر” القديمة، بعد ذلك بألف سنة و أكثر  يحفظون منه فقرات كثيرة تتندر على الحاكم و اللص و ناقل الحدود و شاهد الزور و الكذاب!

كذلك لم يسلم أبو التاريخ، “هيرودوت”، اليوناني، من سخرية المصريين، إذ ترك لنا خبراً له مع كاتب الخزائن المقدسة في معبد الإله “نيت”، إله الفيضان،

لقد سأله “هيرودوت”:

– من أين ينبع نهر النيل؟

فقال له مازحاً في لهجة الجادين :

– النيل يولد بين بلدة أسوان و جزيرة فيلة، من بين صخور جبلين كبيرين، ينتهيان بهضبتين مدببتين، واحدة اسمها “كروفي”، ماؤها رديء، و يتجه نحو الجنوب، و الثانية اسمها “موفي”، ماؤها عذب ومرح، يتجه نحو دلتا مصر في الشمال!”

لا أدري كيف يكون مذاق هذا الماء المرح الذي قصده ذلك الخبيث ..

الغريب أن بعض المؤرخين نقلوا هذه المزحة عن “هيرودوت” علي أنها حقيقة جغرافية مؤكدة ..

لكن الأغرب، أن ذلك الكاتب الساخر في الخزائن المقدسة لإله الفيضان كان يعرف أكثر مما يجب، لقد تنبأ بما سيحدث لنهر النيل بعد بناء سد النهضة الأثيوبي، تماماً كالشخص، لا أدري من هو تحديداً، الذي حرَّف في عمل سينمائي أغنية “النيل نجاشي” لـ “محمد عبد الوهاب” إلي “النيل مجاشي” !

لقد تمسك المصريون بهذا الموروث الفرعونيِّ السلبي عبر العصور، فأمطروا في أوجاع كل من احتل بلادهم، أو ظلمهم، حتي قيل أن الرومان منعوا المحامين المصريين من دخول محاكم “الإسكندرية”، لأنهم كانوا يسخرون من القضاة الرومان، و من أساليبهم في تحقيق العدالة، كما كانوا يسرفون أثناء مرافعاتهم في استخدام النكات، تماماً كـ “فريد الديب” في زماننا !

و الرومان معذورون، فما ظنك بقوم ابتكر أحد شعرائهم، وهو “ابن سودون المصري”، غرضاً جديداً من أغراض الشعر، و هو السخرية من الذات، و من كل قيمة، يقول في إحدي قصائده العصماء :

لموت أمي أرى الأحزان تحنيني / فطالما لَحّستني لحسَ تحنيني
وخلّفتني يتيماً، إبنَ أربعةٍ / و أربعين سنيناً في حسابيني
وطالما دلّعتني حال تربيتي /  حتى طلعتُ كما كانت تربيني
أقول “نمنم” تجي بالأكل تطعمني / أقول “امبو” تجي بالماء تسقيني
إن صحتُ في ليلة “وي وي” لأسهرَها / تقولُ “هاها” بهزٍّ، كي تُنّنيني
كم كحّلتني ولي في جبهتي جعلت / “صوصو بنيلي”، وكم كانت تُحنّيني
وربما شكشكتني حين أغضبها / و بعد ذا كشكشتني كي ترضِّيني
ومن فقيهي، إن أهرب، ورام أبي / مسكي، وبعث له، كانت تُخبّيني

يقصد بالبيت الأخير أنها كانت تخفيه عن عين أبيه حين يهرب من الكُتَّاب !

طالت نكاتهم الفرنسيين أيضاً، إبان الحملة الفرنسية، و أزعج ذلك “نابليون” شخصياً، فأصدر أوامره باعتبار “النكتة”، لأول مرة في التاريخ، جريمة تستحق العقوبة !
 
بالإضافة إلي هذا، كان المصريون أول الشعوب التي خلعت علي حكامها ألقاباً تصغر من شأنهم، فأطلقوا علي “بطليموس الثاني عشر”، والد “كليوباترا”، لقب “الزمار”، و أطلقوا علي الأمير “سيف الدين طشتمر”، “حُمُّص أخضر”، غيض من فيض، انتهي بخلعهم لقب، “البقرة الحلوب”، علي “مبارك” ! ..
 
سخروا من الأتراك أيضاً، يقول الجبرتي :
 
لقد نكت المصريون على الباشا التركى وحولوه إلى أغنية لحنوها ورددوها :

– يا باشا يا عين القملة، مين قال لك تعمل دى العملة !
– يا باشا يا عين الصيرة، مين قال لك تدبر دى التدبيرة !

و مثل ذلك، يا برديسي يا برديسي، إيش راح تاخد من تفليسي، يقصدون بذلك الأمير “عثمان بك البرديسي”، لقب بالبرديسي لأنه تولي كشوفية “برديس” بصعيد مصر، و أرهق المصريين بالجباية ..

“الجبرتي” أيضاً، برغم اتزانه كمؤرخ، و برغم من أنه ليس مصري الجذور، يبدو أنه اكتسب أثناء مقامه في مصر هذا الطابع، و كان يبثه أحياناً في كتاباته، قال، و هو يريد أن يقول لنا من طرف خفي أن “محمد علي ” كان حسوداً ، أن “محمد علي” نظر من فوق حصانه، وهو يهم بالنهوض، إلي “محمد بك الألفي” أثناء المعركة التي دارت بينهما، و خلصت له مصر بعدها، وهو يظلل عينيه بيده، ثم قال كالمأخوذ من تناسق جسده و فتوته :

– هذا طهماز الزمان، و إلا إيش يكون؟! ..

ثم يقول هذا الخبيث الساخر، أنه لم يكمل جملته حتي سقط “محمد بك الألفي” من فوق حصانه ميتاً !

و هذه معلومة غير حقيقية، إذ مات “محمد بك الألفي”، فى يوم الأربعاء “27” يناير سنة “1807 م” بناحية “المحرق”، وحيداً علي تلة في “شبرامنت” ..

الغريب أن “الجبرتي” نفسه أفصح عن السبب الذي دفعة لكتابة هذه الرواية، لقد كان يكره “محمد علي”، إذ علق علي نهاية “محمد بك الألفي” المؤسفة بقوله :

” و لكن الاقليم المصرى ليس له بخت ولا سعد، و أهله تراهم مختلفين فى الأجناس، متنافرى القلوب، منحرفى الطباع ” ..

كانت الحادثة التي ولدت علي إثرها نهاية ” محمد بك الألفي”، هي هذه ..

إجتمع (زعماء الثورة)، و كذلك اجتمع الكثير من العامة، وركب الجميع وذهبوا إلى “محمد على”، و قالوا له :
 
– إنا لا نريد هذا “الباشا” حاكماً علينا ولابد من عزله من الولاية ..

فقال:

– ومن تريدونه يكون والياً؟

فقالوا له :

– لا نرضى إلا بك، و تكون والياً علينا بشروطنا لما نتوسمه فيك من العدالة والخير!

فامتنع أولاً ثم رضى، و أحضروا له كركاً وعليه قفطان، وقام إليه السيد “عمرمكرم”، – نقيب الأشراف -، و الشيخ “الشرقاوى”، – شيخ الأزهر، و رئيس الديوان الذي أنشأه “نابليون بونابرت” أيام الحملة الفرنسية -، فألبساه له !

 و ذلك وقت العصر، ونادوا بذلك فى هذه الليلة فى المدينة، وأرسلوا إلى “أحمد باشا”، الوالى العثمانى، الخبر بذلك، فقال :

– إنى مولى طرف السلطان، فلا أعزل بأمر الفلاحين، ولا أنزل إلا بأمر السلطنة..

من الجدير بالذكر، أن “محمد علي” بعد أن استطاع أن يضبط ايقاعات السيطرة علي  أرض “مصر”، نكل بالرجلين، و فرض علي “الشرقاوي” الإقامة الجبرية !
 
كان بودي أن أقول، ما أشبه الليلة بالبارحة، لكنني، خوفاً من الرجم بتهمة الإرهاب، بدلاً من ذلك، سأترك “كارل ماركس” يقول مقولته الشهيرة :

” التاريخ يعيد نفسه، كمأساة في المرة الأولى، و مهزلة في الثانية !

كذلك محاولات الاسقاط علي شخصية “عبد الناصر”، أو العمل علي استنساخها، و استدعاء مشاهد تراثية لـ “عبد الناصر” وهو يعانق البسطاء و الفلاحين و الجماهير المعذبة المطحونة،

هنا، ليصبح المشهد الساخر أكثر إقناعاً، يجب اللجوء إلي استعارة أزياء الستينيات من مخازن “استوديو مصر”، و لا مانع من استعارة بعض “ساعات الجيب” أم كتينة، و بعض الجزم أم أبزيم، و موضة بنطلون، الحزام فوق السرة، التي اشتهر بها الفنان “فريد الأطرش” ..

و من الأفضل أن يكون الممثل الذي يؤدي دور فلاح الستينات، “وشه معتق”، و يضع بعض “الششن” في عينيه،  هذه نصيحة !

كيف يفكرون؟، كيف؟

ما دمت تمزح، لماذا تستكثر علي الناس متعة مجانية كالمزاح؟

اللي يعمل نفسه قنطرة يستحمل الدوس، هكذا يقول المصريون في موروثهم الشعبي من الأمثال ..

لا تكترث لهم، لك أسطورتك أيضاً، و لك سلاحك المروع، الذي أوجع “عبد الناصر” نفسه، خاصة بعد هزيمة “يونيو” !

لقد اشتعلت في ذلك الوقت ذاكرة النكتة في ألسنة المصرية بشتي صورها،

كان الآلاف من جنود الاحتياط قد شحنوا إلي ميدان المعركة بالجلباب، و عندما صدرت الأوامر بالانسحاب، عاد بعضهم فقط بالبنطلون “الكاكى”، و فوقه الجلباب وفوق الجلباب سترة عسكرية قذرة، و صندل أو بيادة في أقدامهم،

سخر المصريون من هؤلاء “الجنرالات” الذين يضعون شرائط حمراء على الكاب ووصفوهم بـ ” سلاح الإسعاف”، فهؤلاء يستعملون نفس الشرائط، و وصفوهم أيضاً بـ ” السِمَّاوية” النظاميين الذين يقتلون الكلاب الضالة بالسم، فهم يلبسون نفس الزي تقريباً!

و كان كافياً بالقدر الذي يلهم اشتعال ضحكات المصريين من كل الجهات، أن يروا جندياً أو ضابطاً يجري فى الشارع ليلحق بالأتوبيس، فيصيحون من كل الجهات :

– أحسن يا وَحْش !

و أطلق أحد المجاورين في الأزهر نكتة، هذا يبدو واضحاً من أسلوبها،  انتشرت حينذاك كالنار في الهشيم،

ثلاثة لا يدخلون الجنة، سألوا من؟، قيل “شمس بدران”، و “عبد الحكيم عامر”، و “عبد الناصر”، فالأول، ترك الجيش بدون عدة، و الثانى مات حباً فى وردة، – وردة الجزائرية-، و الثالث تنحى وقت الشدة !

ثم، حدث بعد مسرحية تنحي “عبد الناصر” الشهيرة، أن خرج الشعب إلي الشوارع هادراً بهتافه المسئ :

“أ..ا، أ..ا، لا تتنحي”

كانوا قد بدأوا يفطنون إلي الواقع المرير الذي يعيشونه، و كانت الأسطورة الصناعية قد تآكلت تماماً، و وهم الزعيم الخالد تبخر، مما دفع “عبد الناصر” أن يتحدث عن النكتة في (البرلمان) قائلاً :

– الشعب المصري يمسك أي حاجة و ينكت عليها، هو شعب يحب النكتة ودى ميزة، بيفلسف بيها الأمور، لكن أعداءنا ممكن يستغلوها فينا، فلازم نكون ناصحين !
 
لقد وضعت مفردة (البرلمان) بين قوسين عن عمد، لأني كان يجب أن أقول “باتا”، كما أسماه المصريون علي لسان “نبوي اسماعيل”، وزير داخلية “السادات” في إحدي نكاتهم، يقولون :

” أراد “السادات” أن يغير اسم “مجلس الشعب”، فطلب من الأعضاء مناقشة الاقتراح، فاقترح عضو من حزب الوفد العودة إلى اسم ( البرلمان )، و اقترح عضو فى الحزب الوطنى اسم “المصطبة”، و سأل “السادات” وزير الداخلية :

– و أنت يا “نبوى” رأيك إيه؟

فقال :

– سيادة الرئيس أنا باقترح نسمى المجلس (باتا) !

 فرد :

– ليه يا نبوي؟

– لأننا يا فندم بنختار من كل دايرة “جوزين” !

حتي المسكين “باتا”، صاحب محلات الأحذية الشهير، لم يسلم من ألسنة المصريين، و روجوا لشائعة تقول بأن “باتا” قبضوا عليه، لماذا؟، لأنهم ظبطوه ماشي حافي !

نالت النكات الساخرة من “السادات” حتي بعد انتصاره الهزيل في “أكتوبر”، فعقب مظاهرات الجياع، فى يناير”1977″، قالوا في نكاتهم أن “السادات” دخل جمعية استهلاكية فسأل عن الزيت، فلم يجد، وعن السكر و الصابون و الأرز و الشاى، فلم يجد، فقال مندهشا :

– الله حاجة غريبة، يبقى الناس بتودى فلوسها فين !

هذه النكتة تجري في سياق النكتة التي انتشرت خلال ثورة “25 يناير” عن مبارك يقول في حديث تليفزيوني

– التغيير سنة الحياة !

فسأله المذيع :

– و إنتا يا سيادة الريس؟

فأجاب :

– أنا فرض مش سنة !

و لقد انتبه المصريون إلي حقيقة أن شبح “عبد الناصر”، كان يلتحق كالفكرة السوداء بنوم “السادات”، الذي لم يصدق حتي بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية، أنه أصبح بالفعل رئيس الجمهورية، لذلك، كان يفرط في استخدام جمل محددة، مثل: و قلت له، الله ده أنا رئيس الجمهورية !

من يعرف المصريين يعرف أنهم، علي الدوام، لا يحرسون المشاعر الصحية لشخص أياً كان، و هم مستعدون علي الدوم لتغيير عواطفهم كما يغيرون أحذيتهم عند أول إحساس بالخيبة ..

و لا أعتقد أن مصرياً كان له في قلوب كل المصريين نصيب أوفر حظاً من نصيب “سعد زغلول”، لا “جمال عبد الناصر” ولا غيره، و أستثني هنا الشيح الجليل، و الجميل، “محمد متولي الشعراوي” فقط، مع ذلك، حين أخطأ “سعد زغلول” يوماً، و قال في أحد تصريحاته الشهيرة :

– خسرنا المعاهدة، و كسبنا صداقة الإنجليز !

ثم قال :

– الإنجليز خصوم شرفاء معقولون !

ردد المصريون حينذاك، بحفاوة بالغة، خلف الزجال المصريِّ، سودانيِّ الأصل، “محمد إمام العبد”، و لعله غيره، لا أتذكر علي وجه الدقة، قوله في هجاء “سعد زغلول” الصريح :

بربر برابر بربرة / حيَّرْتنا يا ابن المَرَهْ !

خليفته، “مصطفي النحاس”، أيضاً، لم يبق منه في الذاكرة سوي ما قال عنه “مكرم عبيد”، في “الكتاب الأسود”، و بيتي شاعر البؤس “عبد الحميد الديب” في هجائه، بعد أن مدحه طمعاً في نواله و مني بالخيبة :

راجعْ زمانك أيُّهذا الكاسُ / فاليومَ، لا نحسٌ، ولا “نحَّاسُ”

لم يبقَ من مجدِ الزعامة ِكلِّه / إلا قميصٌ أزرقٌ ولباسُ !

يشير بـ “قميص أزرق” إلي الميليشيات العسكرية التي شكلها حزب الوفد، و عرفت بـ “القمصان الزرق” !

و هجاء الحاكم الظالم مبرر، كالمزاح من كل حاكم ظالم، و قد اعتمده حتي الجاهليون كسلاح للدفاع عن الإنسان، يقول “طرفة بن العبد”، الشاعر الجاهليُّ، في هجاء  الملك “عمر بن هند”، من قصيدة طويلة :

فليتَ لنا، مَكانَ المَلْكِ عَمْرٍو/ رَغُوثاً، حَولَ قُبّتِنا تَخورُ

يقول، ليت لنا بقرة تحكمنا مكان “عمرو بن هند” !

و “دعبل الخزاعي”، الشاعر العباسيُّ، قال من قصيدة في هجاء الخليفة “المعتصم” :

ملوك بني العباسِ في الكتبِ سبعةٌ / ولم تأتِنـا عن ثامـن ٍ لـهمو كُتـْبُ

كذلك أهلُ الكهفِ في الكهفِ سبعةٌ / خيـارٌ، إذا عُـدُّوا، و ثامنـهم كلـبُ

وإنـي لأُعلـي كـلبَهم عنك رفعةً / لأنَّك ذو ذنْبٍ، وليس له ذنْـبُ

فالآن، و نحن نعيش في عالم لم يعد فيه شئ يحتاج إلي تأويل، بعد أن انقشع كل الغمام الفارغ، و انهارت الأصنام العقيمة، من الحماقة أن تحرم المصريين من هذه المتعة المجانية ..

لكن الغريب، أن أكبر المشاعر في تراث أولئك الساخرين هو الحزن، و أعظم ما ورثوا عن أسلافهم استحقاقاً لفخرهم كان قبراً، أقصد الهرم الأكبر ..

و من المؤسف أن السخرية العصبية، و هي تقليد يكاد يخص المصريين وحدهم دون سائر الشعوب، ارتبط في أعماقهم، بسبب نهر النيل، بحالة من الرسوخ الانفعالي، جعلتهم يفضلون الرضا و الاستسلام للواقع مهما كانت ضراوته، و التعايش معه، و خفوت الرغبة في تغييره، من السهل أن نلمس ذلك، بوضوح أكثر مما ينبغي، في موروثهم الشعبي، مثل :

” إن كان لك عند الكلب حاجة قل له ياسيدي “،  ” اسجد للقرد فى زمانه “،  ” أربط الحمار مطرح ما يعوز صاحبه “، ” القوي عايب “، “إن لقيت الناس بتعبد العجل، حش وارميله “، ” اللى يتجوز أمي، أقول له يا عمى “، ” مين فات قديمه تاه “، ” اللي نعرفه أحسن من اللي منعرفوش” !

لذلك، كان يجب أن يفكر شخصٌ هكذا يفكر، في سابقة يندر أن تحدث في أي بقعة من العالم الحديث، في البحث عن حوش مقبرة ليسكنه هو وعائلته، بدلاً من التفكير في أن يبقر بطون حكامه !

مع ذلك، لقد نسقوا مكيدتهم، أولئك الخبثاء، و باشروا تربية جيل، انفجر في ثورة “25 يناير”، دون حتي أن يبحث البدائل، أو يزن المجازفة، فانهارت أو كادت، أكبر ديكتاتورية في تاريخ “مصر”، لكنها، لسوء الحظ، استعادت لياقتها مجدداً، لكن مؤقتاً، فلقد نسي للأبد هؤلاء الشباب حالتهم في الثورة علي أي واقع مذل ..

فاحذروا الغضب القادم، و هذه أيضاً نصيحة،

و استعير هنا بتصرف أصابع “ماركس”، حين قال :

– التاريخ يعيد نفسه، كمأساة في المرة الأولي، و مهزلة في الثانية ..

لذلك، إذا انفجر المصريون مجدداً، فالثورة الثانية ستكون مهزلة، و لا شئ يربك الخصم كالمهزلة، لأن المهازل لا تراعي عادة قواعد المعركة، تماماً كالنكتة ..

اضحك، بالله عليك، لإرباك الخصوم ..

شارك الخبر:

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *