مرسلة من غير دايز

بسم الله الرحمان الرحيم و الصلاة و السلام على اشرف المخلوقين سيدنا محمد و على اهله و صحابته.

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
اعتبر فن الملحون أكثر المضامين تأثيرا في الوجدان من الجوانب الدينية و الصوفية، و تطرق خلاله الشعراء الى الذوق و اللطائف و عمق المعنى، يسعفهم في ذلك المسعى بارتقاء النظم إلى درجات مهمة من التنسيق اللفظي و من الخيال ، خصوصا وأن مفاهيم العشق الإلهي و الحضرة الصوفية و الفناء في الله قد وجدت طريقها الى القصائد الملحونة كما تطرق الشعراء الى مضامين أخرى في العشق وصف الطبيعة و غيرها . وإذا كانت تافيلالت مهد هذا الفن و نبوغه في عهد الدولة الموحدية حيث اشتهر من الشعراء إبن غرلة وعبد المومن الموحدي وابن خبازة وابن حسون. وخلال الفترة المرينية اشتهر الكفيف الزرهوني ومولاي الشاد وعبد الله بن حساين. فيعد العهد السعدي فترة ازدهار الملحون حيث ظهرت مستجدات في الأوزان والبحور والأغراض على يد المغراوي والمصمودي. وقد بلغ أوجه خلال الفترة العلوية على عهد السلطان محمد الثالث مع بروز فطاحل هذا الفن أمثال الجيلالي امثيرد ثم فيما تلا ذلك من العهود مع العمراني و وبن سليمان وسيدي عبد القادر العلمي والتهامي المدغري ، و اليوم أصبح للملحون أكثر من وكر على امتداد ربوع المغرب ، حيث أصبحنا نسمع عنه في الرباط و سلا و فاس و مراكش و أزمــــــور و تارودانت و غيرها من المدن المغربية.
الملحون فن شعري وإنشادي غنائي متميز، وقد يكفي السامعَ سماعُه وتذوقُه الانطباعي تَعَبَ البحث عن بواعث ومظاهر قيمته الفنية وكوامنه الجمالية. وإذا كان هذا شعور جل أو كل المتلقين، فإنه من الدواعي الأكيدة عند الباحث في فن الملحون لرصد تلك البواعث والتجليا. نورد بعضها تباعا كالآتي :
تتفاعل في نسج قصيدة الملحون مقومات وآليات الاشتغال الفنية المتداولة في اللغة الشعرية مع بروز بعضها، مثل الحكي أو القص، والحوار، والوصف والتشخيص، مع الانفتاح على أفق الخيال المبدع للصور المتجاوزة أحيانا كثيرة مستوى الصور التشبيهية التقريبية والجزئية أو الصغرى إلى الرمز والإشارة والصور الكلية الرؤياوية التلويحية المنتجة للمعنى الإيحائي والصادرة عن مستوى “الإدراك الحلم”، في مثل بعض قصائد الملحون الصوفي عند عبد القادر العلمي (“الساقي”-“البستان”)، ومحمد الحراق، وأحمد بن عبد القادر التستاوتي، والفلوس، وغيرهم، وأيضا في العديد من قصائد الغزل، عند أمثال الجيلالي متيرد والتهامي المدغري، وفي بعض “الجفريات” وقصائد “الحجام”و “الشمعة”، حيث يكون النص فضاء سفر في الزمن النفسي، ويكون كل واحد من مكونات العالم الخارجي الحاضرة فيه جزءا من صورة العالم النفسي الداخلي وحلم اليقظة الذي تصبو إليه الذات.
وفق هذا الطرح الرمزي الإيحائي ينبغي أن تقرأ الكثير من قصائد الملحون، مثل قصيدة “البستان” و” الساقي” لعبد القادر العلمي، وقصيدة “الشمعة” لابن علي وغيرها. فهي من صنف الصورة الرؤيا و مستوى مقام الكشف في الإبداع الفني، “فالساقي” – مثلا- مأوى لتجربة روحية ذوقية، ولطموح صوفي يسمو على المظهر المادي المدنس إلى الباطن الروحي المقدس، المتجلي في وصال الحق، والنعيم بصفاء الحياة الصوفية، ورؤية نوره سبحانه بعين البصيرة، رؤية ذوقية قلبية، تفاعلت في بنائها عناصر الطبيعة بأشجارها وأزهارها وأطيارها، وليلها وفجرها ونهارها، والسكر بخمره وأوانيها المتميزة، ومجالسه وطقوسه التي تتفاعل فيها المرأة الجميلة والموسيقى المثيرة والطرب واللهو والزهو….لم يكتف شاعر الملحون بمصدر واحد في بناء صوره، وإذا كانت النماذج التي أوردنا ضمن إبراز بعض الملامح الفنية في الصور الصغرى التقريبية مستقاة من الفضاء الطبيعي، فاءن الطبيعة لم تشكل الرافد الأوحد للصورة الشعرية في فن الملحون، وإن حضرت بقوة، إذ هناك – فضلا عنها وعن خيال الشاعر – الحضارة المغربية بمختلف تجلياتها، كل حسب منطقته ومجال عيشه وفسحة حركته وتنقله، وهناك أيضا الواقع المغربي الديني الأخلاقي، والاجتماعي الحياتي اليومي، والحربي…، وثقافة الشاعر التي تتجلى فيما يستدعيه من شخصيات تراثية أو أسطورية، وأحداث ووقائع ومعارف في شتى مجالات المعرفة الفكرية والعلمية؛ الدينية والفلسفية والصوفية والأدبية….
للتمثيل فقط، نلاحظ أن الصورة الشعرية في شعر شاعر فاس محمد بن سليمان تتقاطع في بنائها عناصر الطبيعة، والحضارة الفاسية – خاصة – بأثوابها وملابسها، وعمرانها ومعمارها، وعاداتها وتقاليدها، وموسيقاها ومجالسها…، وقصيدته “الحجام” نموذج لأثر هذا المدار الحضاري في صوره، ينضاف إلى ذلك واقع الحروب والصراع بين القبائل والثورات على فاس عاصمة البلاد (جروان- بني مطير- آيت أومالو…)، واستدعاء الشخصيات التراثية والأسطورية والرموز الدينية…، والمطلع على شعره، مثل قصيدة “الشهدة” وقصيدة “السيف العلاوي”، يتلمس هذه المصادر أو العناصر ويستخلص غناها.
يتنوع البناء الهيكلي لقصيدة الملحون ولأقسامها تماشيا مع تنوع البناء الإيقاعي، وتنوع البحور (المبيت-المشتب-السوسي- مكسور الجناح)، والخصوصية البنائية أو الصورية التي يفرضها كل بحر.
معنى ذلك أن التحول الإيقاعي والصوري المنظم يعد من خصائص أقسام قصيدة الملحون، وملامحها المبعدة عن الرتابة الفنية، والمفيدة للحركة والمسهمة في الإبداع وبعث الشعور بالجمال عند المتلقي، بفضل التوليف الإيقاعي والإنشادي القائم بين مختلف الأطراف المشكلة للقصيدة (الأقسام- السرابة –النواعر –العروبيات….)، حيث يدخل التشكيل الصوري المعماري في علاقة تخاطبية مع التشكيل الإيقاعي ومع الإنشاد وطبوعه فتأتي “السرابة” –مثلا- سردا إنشاديا سريعا بالمقارنة مع أقسام القصيدة…، وتتردد الحربة في كل قسم بصوت إنشادي جماعي…، إلى غير ذلك من مظاهر التواصل والتفاعل بين فضاءي النص والإنشاد.
ارتباطا بمقوم الحكي في الشعر الملحون، ومراعاة لقوة حضوره في العديد من الأغراض وأصناف القصائد (شعر الغزل- الحجام-المرسول-الخلوق-الوفاة-المعراج…-وصف الطبيعة-النزاهة-الغزوات(، وأيضا قدم الشعر الملحون وارتباطه الوثيق بالهوية الفنية والثقافية المغربية، يمكن اعتبار قسم مهم من هذا الشعر واحدا من الأصول الحكائية في المغرب إلى جانب الحكايات الشعبية، والخرافات، ونصوص المناقب، وحكايات الكرامات الصوفية، وغيرها.بناء على القيمة الفنية للشعر الملحون، وباستحضاره في الحسبان يمكن أن تراجع بعض أحكام القيمة الصادرة في حق الأدب المغربي في بعض فتراته، مثل الحكم عليه بالضعف والسقوط إبان القرن التاسع عشر الميلادي الذي لم ينتبه عدد من مردديه إلى الشعر الملحون والأدب الصوفي أحق الانتباه، وإلا كانت النظرة أوسع وأشمل، وتغير ذلك الحكم بعضه أو كله.
يتميز الشعر الملحون بتفاعل ناجح بين اللهجة المغربية ولغة المعرب المدرسية إلى حد التماهي بينهما الذي ولد لغة الملحون وكان أحد أهم خصائصها الفنية، هذه اللغة التي تنماز بالخرق والتجاوز في المعجم والتركيب والدلالة، مادام هناك من الكلمات الفصيحة ما يتحول في نطقه إلى الدارج العامي، ومن الفصيح واللهجي العامي ما يتبدل معناه جزءا أو كلا، هذا فضلا عن ولادة وحدات معجمية لا عهد للفصيح واللهجي العامي بها.
إن من شأن هذه الخصائص اللغوية أن تكون بواعث فنية وجمالية تكسر أفق انتظار المتلقي الذي يقرأ نص الملحون ويستأنس بالفصيح والعامي فيه ظانا أن معنى الكلمة واحد، اكتفى شاعر الملحون بنقله ليس إلا، والصواب غير ذلك، فحين يقول –مثلا- حمود بن ادريس في قصيدة “الحجام” : “صول احجام العانس الدامي”، فإن تفسير “العانس” بالفتاة التي تجاوزت سن أو مرحلة الزواج دون أن تتزوج، الثابت في المعجم العربي الفصيح، يعد تفسيرا خاطئا، إذ عكسه هو الصواب كما توحي دلالة ذلك الشطر، “فالعانس” فيه فتاة حسناء مطلوبة، يعشقها الشاعر فيدعو “الحجام” الرسام إلى تشكيل الصورة أو الوشم بإيحاء من حبه لها وجمالها الأخاذ. كذلك هو مفهوم “العانس” في كل الشعر الملحون.
إذا أمكن اعتبار تعدد أغراض الشعر ونشاط النظم من مظاهر القيمة الفنية، فإن الشعر الملحون في المغرب عرف بأغراضه المتنوعة والمتفرعة والمكتنزة، فالمديح النبوي –مثلا- يشمل وحده ألوانا من الموضوعات أو الأغراض الصغرى التي تعرف بها قصائده، منها : الخلوق، والوفاة، والمعراج، والمرسول، والمرحول، والحمام، والورشان، والغزوات، والتصلية…، وشعر الهجاء تندرج ضمنه قصائد “الدعى”. والمطموس، والمهراز، والبغاز، والقرصان، وأيضا الخصام، وغيرها.
الملاحظ، في اتصال بتعدد الأغراض ونشاط النظم وذيوع نصوصه، أن شعر الملحون لم يتراجع عن إرضاء الذوق العام، وتربية ملكة الخيال عند العامة والخاصة، ومساوقة المسار الفني والفكري في المغرب بقدر ما احترمه وشكل أحد ركائزه المميزة، ولذلك حين نعتبر الأدب الديني ركنا مهما وجوهريا في بناء صورة الأدب المغربي، وأنه الأدب الرسمي الحقيقي، إذا راعينا خصوصية الانتشار والذيوع، إنتاجا وتلقيا، وضمنه الأدب الصوفي، خاصة في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر وبداية العشرين، فإن الشعر الملحون يؤكد حضوره الفعال في إثبات هذه الحقيقة.
يخلص الفاحص لفن الملحون، شعرا وإنشادا وسياقا، في تواصل مع الحركة الفنية المعاصرة بمختلف أنواعها، إلى وجود توافق وتقاطع متأصلين بينه وبين بعض الفنون، مثل المسرح والتشكيل، وبعض فن الغناء الحديث والمعاصر…، مؤدى ذلك أن فن الملحون مؤهل لتجاوز زمانه والاستمرار في ذاته من خلال تفاعله وتواصله مع الفنون الحديثة. وأهليته تلك نابعة من قيمته الفنية المتجلية في كفاءة الوصف والتشخيص وتوظيف طاقة الخيال ومكتسبات الذاكرة، والوعي الفني لدى أصحابه، وكذا خصوصيات إنشاده، وقوة تأثيره في المتلقي التي أبرزها أحمد التستاوتي-أحد شعراء المغرب والزجل – في الباب الخامس الخاص بالملحون من مجموعه الأدبي: “نزهة الناظر وبهجة الغصن الناضر”، مشبها الشعر الملحون بنغم الوتر الذي يطرب ويحرك ويثير، وتدعن له الأسماع والقلوب، يقول في تقديمه لذلك الباب :”الباب الخامس في ذكر ملحونات مثل نغمات الأوتار، تطرب الأرواح، وتحرك الأشباح، وتلبس القلوب ملابس الانكسار”.
لقد أثبتت بعض الأعمال الفنية الحديثة كفاءة فن الملحون وأهلية استمراره في الزمان مثل مسرحية “الحراز” ومسرحية “الدار”، وتلك القصائد التي غنتها بعض المجموعات الفنية المعاصرة، مثل “جيل جلالة” و “ناس الغيوان”، ومنها قصيدة “الشمعة” لابن علي، و”مزين أو صلوك” لعبد القادر العلمي، و”الشهدة” لمحمد بن سليمان وحربتها

شارك الخبر:

شارك برأيك

‫20 تعليق

  1. غير دايز
    شكراً على الجهد لكن كنت اتمنى لو كان هناك تبسيط في النص و تقريب هذه الفنون الى مدارك و اذواق المشرقيين

  2. شكرا ام ريان و سعيدة بالفيديو الذي قدمته. في الحقيقة كنت اود بعث بعض القصائد و الأناشيد لكني وجد صعوبة في الاختيار فقررت ان ابعث الموضوع ثم القصائد فيما بعد
    و هذه قطعة من قصيدة المحمل للحاج عمر المراكشي تصف بعض مواكب الحج.
    يَا رَبِّي بِكْ لِيكْ كَمَّلْ بَالْخِيرْ اعْلِـيَّ
    مَكَّة نَنْظَرْهَا ايْزُولْ كَرْبِــــي
    اللاَّيَمْ لاَ تْلُومْنِي كُفّْ اللُّومْ اعْلِــيَّ
    نَتْهَى اللاّيَمْ لاَ اتْزِيــدْ عَجْبِـي
    مَا نَكْوِيتِي وْلاَ انْظَرْتِي فَرْجَاتْ زْهِيَّـة
    افْمَصْرْ تَمَّ زَالْ كَرْبِـــــي
    يَوْمْ الْمَحْمَلْ ايدُوزْ لاَبَسْ كَسْوَة عَكْرِيَة
    حُسْنْ ابْهَاهْ مَنْ ابْعِيدْ يَسْبِـــي
    بَحْلِي وَحْلَلْ وُلَتْفَاتْ وَجْوَامَرْ ذَهْبِيَـة
    عَنْ ذَا مَا صَالْ بِهْ عَرْبِــــي
    مُوبَّرْ لَكْتَافْ قَصّْتُو تَنْبَاكَنّْ اثْرِيَّـــة
    وَمْجَادَلْ لَحْرِيـرْ فَاشْ امْغَبِّــي

  3. العفو اخي مأمون هي فقط محاولة بسيطة.
    اختي نهى حاولت تقرب الموضوع للجميع و اخترت بحث يعالج بعض جوانب هذا الفن كما ان لغت السرد كان بسيطة حتى يتمكن الجميع من استعابه.
    مراحب شكرا لك. شنو اخبارك و لو في اخبار عن لولو الشام و عمتها. سلمي لي عليهم كثيرا.

  4. أهلا حنان…لا باس عليك أزين…و شحال هذا ما سيفطتي لينا شي موضوع…المرة الجاية سيفطي لينا شي موضوع على أندلسيات المغرب و ميرسي مسبقا و مؤخرا…

  5. اهلين مريم انا الحمد لله او انت اش اخبارك راني غير مع الخدمة او الوقت متيكونش بزاف داكشي علاش تنتعطل في المواضيع.
    غير دعي معيا

  6. يعجبني الفن الأصلي المعتمد في مضمونه عالقصايد و الشعر و الحكم و العِبر الدينية…
    مشكورة عالفيديو أختي أم ريان, سماعي للفيديو حسسني بحنية بلادنا العربية و سهرات رمضان بعد العشاء و صلاة التراويح أحيانا الناس تسهر و تسمر مع المدائح الدينية و الأحباب و الجيران و الدربوكة و الحلاوى بالأنواع… الله الله…
    ضحكتني الأغنية لما حكت عن (الكـــرعين) عكل حال, اللي مابيحبهم راه missing out on great dish!
    just saying!
    …. خصّت غير بوقالة يا ايــــــمان, وين راكي آمولاتي آلالة لووووول.
    كذلك تعجبني فرقة ((طــــموح المغربية))

    يعطيك الصّـــحة حنـــانو,

  7. الزيونات شكرا
    انا كنفظل كون رسلتي فيديو للملحون بالاظافة الى كلمات القصيدة باش افهمومها الناس اما بالنسبة لينا اختي عارفين
    شكرا ازيونات
    المرة جاية رسلي لينا شي تاماويت اي الموال ديال الامازيغية
    ==
    انا كنلاحظ فيك زعما طفرتو ههههههههههههههه

  8. المرة الجاية سيفطي لينا شي موضوع على أندلسيات المغرب
    copy
    مع الشكر و التقدير لجهودك

  9. سأعمل على تطبيق ملاحظاتكم و نصائحكم نهى و حسونة
    الله يعطيك الصحة فايزة و ستار .

  10. مشكوره غير دايز انشالله قريبا زياره الى المغرب الجميل بشعبه وطبيعته
    لان احب ان اتامل واكتب الشعر انا موهوبه هههههههه

  11. شكرا لكم اخي مصطفى و ام يوسف و هند
    عزيزني هند من من لا يحب العيطة دابا تجي نوبتها حتى هي
    سوزي مرحبا بك و راح تستفيدي كثير من الثنوع الثقافي و تزيد موهبتك الشعرية

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *